البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞إِنَّمَا يَسۡتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسۡمَعُونَۘ وَٱلۡمَوۡتَىٰ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ} (36)

{ إنما يستجيب الذين يسمعون } إنما يستجيب للإيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء كما قال : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } ويستجيب بمعنى يجيب .

وفرّق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي إليه .

قال : { فاستجاب لهم ربهم } { فاستجبنا له ونجيناه من الغم } وليس كذلك أجاب لأنه قد يجيب بالمخالفة .

قال الزمخشري يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنما يستجيب من يسمع كقوله { إنك لا تسمع الموتى } وقال ابن عطية هذا من النمط المتقدم في التسلية ، أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول فعبر عن ذلك كله بيسمعون .

إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة .

وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا استمع { والموتى يبعثهم الله } الظاهر أن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار من الله تعالى أن الموتى على العموم من مستجيب وغير مستجيب ، يبعثهم الله فيجازيهم على أعمالهم وجاء لفظ الموتى عاماً لإشعار ما قبله بالعموم في قوله { إنما يستجيب الذين يسمعون } إذ الحصر يشعر بالقسم الآخر وهو أن من لا يسمع سماع قبول ، لا يستجيب للإيمان وهم الكفار .

وصار في الإخبار عن الجميع بالبعث والرجوع إلى جزاء الله تعالى ، تهديد ووعيد شديد لمن لم يستحب وتظافرت أقوال المفسرين أن قوله والموتى يراد به الكفار .

سموا بالموتى كما سموا بالصمِّ والبكم والعمي وتشبيه الكافر بالميت من حيث إنّ الميت جسده خالٍ عن الروح ، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات .

وأصلح أحواله دفنه تحت التراب .

والكافر روحه خالية عن العقل فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفاته لأمره وعدم قبوله لمعجزات الرسل ، وإذا كانت روحه خالية من العقل كان مجنوناً فأحسن أحواله أن يقيَّد ويحبس .

فالعقل بالنسبة إلى الرّوح كالروح بالنسبة إلى الجسد .

وإذا كان المراد بالموتى هنا الكفار فقيل البعث يراد به حقيقته من الحشر يوم القيامة والرجوع هو رجوعهم إلى سطوته وعقابه ، قاله مجاهد وقتادة .

وعلى هذا تكون هذه الجملة متضمنة الوعيد للكفار .

وقيل الموت والبعث حقيقة والجملة مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة { ثم إليه يرجعون } للجزاء ، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان وأنت لا تقدر على ذلك قاله الزمخشري .

وقيل الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والبعث للإيمان .

فقيل الجملة من قوله { والموتى يبعثهم الله } مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإيمان .

وقيل ليس جملة بل { الموتى } معطوف على { الذين يسمعون } ، و { يبعثهم } الله جملة حالية .

والمعنى إنما يستجيب الذين يسمعون سماع قبول ، فيؤمنون بأول وهلة والكفار حتى يرشدهم الله تعالى ويوفقهم للإيمان ، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر .

وقرىء ثم إليه يرجعون بفتح الياء من رجع اللازم .