أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

شرح الكلمات :

{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم الكفار } : أي بأن فرت امرأة أحدكم إلى الكفار ولحقت بهم ولم إلى يعطوكم مهرها فعاقبتم أي الكفار فغنمتم منهم غنائم .

{ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } : أي فأعطوا الذي ذهبت أزواجهم إلى الكفار مثل ما أنفقوا عليهن من مهور .

{ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } : أي وخافوا الله الذي أنتم به مؤمنون فأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه .

المعنى :

وقوله تعالى { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } أي وإن ذهب بعض نسائكم إلى الكفار مرتدات ، وطالبتم بالمهور فلم يعطوكم ، ثم غزوتم وغنمتم فأعطوا من الغنيمة قبل قسمتها الذي ذهبت زوجته إلى دار الكفر ولم يحصل على تعويض أعطوه مثل ما أنفق .

وقوله : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } أي خافوا عقابه فأطيعوه في أمره ونهيه ولا تعصوه .

الهداية :

- ومن ذهبت زوجته ولم يُردّ عليه شيء مما أنفق عليها ، ثم غزا المسلمون تلك البلاد وغنموا فإن من ذهبت زوجته ولم يعوض عنها يعطى ما أنفقه من الغنيمة قبل قسمتها . وإن لم تكن غنيمة فجماعة المسلمين وإمامهم يساعدونه ببعض ما أنفق من باب التكافل والتعاون .

- وجوب تقوى الله تعالى بتطبيق شرعه وإنفاذ أحكامه والرضا بها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال: في النفقة:... {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} يعني أحد أزواجكم {إلى الكفار} يعني إن لحقت امرأة مؤمنة إلى الكفار، يعني كفار الحرب الذين ليس بينكم وبينهم عهد وتزوجها مسلم {فعاقبتم} يقول: فإن غنمتم، وأعقبكم الله مالا {فآتوا} وأعطوا {الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} يعني المهر ما أصبتم من الغنيمة قبل أن تخمس الخمس، ثم يرفع الخمس، ثم تقسم الغنيمة بعد الخمس بين المسلمين، ثم قال: {واتقوا الله} ولا تعصوه فيما أمركم به، {الذي أنتم به مؤمنون} يعني بالله مصدقين...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول جلّ ثناؤه للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَإنْ فَاتَكُمْ "أيها المؤمنون "شَيْءٌ مِنْ أزْواجِكُمْ إلَى الكُفّارِ" فلحق بهم.

واختلف أهل التأويل في الكفار الذين عُنُوا بقوله "إلى الكُفّارِ" من هم؟

فقال بعضهم: هم الكفار الذين لم يكن بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، قالوا: ومعنى الكلام: وإن فاتكم شيء من أزواجكم، إلى من ليس بينكم وبينهم عهد من الكفار...

وقال آخرون: بل هم كفار قريش الذي كانوا أهل هدنة، وذلك قول الزهريّ...

وقوله: {فَعاقَبْتُمْ}... بمعنى: أصبتم منهم عقبى.

وقوله: {فآتُوا الّذِينَ ذَهَبَتْ أزْوَاجُهُمْ مِثْلَ ما أنْفَقُوا} يقول: فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مثل ما أنفقوا عليهنّ من الصداق.

واختلف أهل التأويل في المال الذي أمر أن يعطى منه الذي ذهبت زوجته إلى المشركين؛

فقال بعضهم: أُمروا أن يعطوهم صداق من لحق بهم من نساء المشركين... عن الزهريّ، قال: أقرّ المؤمنون بحكم الله، وأدّوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقرّوا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله للمؤمنين: {وَإنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أزْوَاجِكُمْ إلى الكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فآتُوا الّذِينَ ذَهَبَتْ أزْوَاجُهُمْ مِثْلَ ما أنْفَقُوا وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤمِنُونَ} فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين، ردّ المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم، الذي أمروا أن يردّوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن، ثم ردّوا إلى المشركين فضلاً إن كان بقي لهم. والعقب: ما كان بأيدي المؤمنين من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن...

وقال آخرون. بل أُمروا أن يعطوه من الغنيمة أو الفيء...

عن إبراهيم، في قوله: فَعاقَبْتُمْ قال: غنمتم...

وقال آخرون... [عن] ابن زيد في قوله: {وَإنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أزْوَاجِكُمْ إلى الكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ} قال: خرجت امرأة من أهل الإسلام إلى المشركين، ولم يخرج غيرها. قال: فأتت امرأة من المشركين، فقال القوم: هذه عُقْبتكم قد أتتكم، فقال الله {وَإنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أزْوَاجِكُمْ إلى الكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ}: أمسكتم الذي جاءكم منهم من أجل الذي لكم عندهم "فآتُوا الّذِينَ ذَهَبَتْ أزْوَاجُهُمْ مِثْلَ ما أنْفَقُوا" ثم أخبرهم الله أنه لا جناح عليهم إذا فعلوا الذي فعلوا أن ينكحوهنّ إذا استبرئ رحمها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذهبت امرأته إلى الكفار، فقال لهذه التي أتت من عند المشركين: هذا زوج التي ذهبت أزوجكه؟ فقالت: يا رسول الله، عذر الله زوجة هذا أن تفرّ منه، لا والله مالي به حاجة، فدعا البختري رجلاً جسيما، قال: هذا؟ قالت: نعم، وهي ممن جاء من مكة.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله عزّ وجلّ في هذه الآية المؤمنين أن يعطوا من فرّت زوجته من المؤمنين إلى أهل الكفر إذا هم كانت لهم على أهل الكفر عُقْبى، إما بغنيمة يصيبونها منهم، أو بلحاق نساء بعضهم بهم، مثل الذي أنفقوا على الفارّة منهم إليهم، ولم يخصص إيتاءهم ذلك من مال دون مال، فعليهم أن يعطوهم ذلك من كلّ الأموال التي ذكرناها.

وقوله: {واتّقُوا اللّهَ الّذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤمِنُونَ} يقول: وخافوا الله الذي أنتم به مصدّقون أيها المؤمنون فاتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

روى أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله: {وَإِن فَاتَكُمْ} وإن سبقكم وانفلت منكم {شيء} من أزواجكم: أحد منهن إلى الكفار {فعاقبتم} من العقبة وهي التوبة: شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر، فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{فعاقبتم} والعاقبة في هذه الآية، ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم، وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم. والتعقيب: غزو إثر غزو. ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها، وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُعَاقَبَةُ: الْمُنَاقَلَةُ عَلَى تَصْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ من الشَّيْئَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ عَقِيبَ ذَهَابِ عَيْنِهِ، فَأَرَادَ: فَعَوَّضْتُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَهُمْ عِوَضًا، أَوْ عَوَّضُوكُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَكُمْ عِوَضًا، فَلْيَكُنْ من مِثْلِ الَّذِي خَرَجَ عَنْكُمْ أَوْ عَنْهُمْ عِوَضًا من الْفَائِتِ لَكُمْ أَوْ لَهُمْ.

...

...

...

...

...

...

....

المسألة الثَّالِثَةُ: فِي مَحَلِّ الْعَاقِبَةِ: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا من الْفَيْءِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ.

الثَّانِي: من مَهْرٍ إنْ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ فِي زَوْجِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ اقْتِصَاصِ الرَّجُلِ من مَالِ خَصْمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ دُونَ أَذِيَّةٍ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرَدُّ من الْغَنِيمَةِ.

تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :

{فَعَاقَبْتُمْ} استعارة تمثيلية بأَن شبه كون الإِعطاء تارة من مشرك وتارة من مسلم فتعاقب بتعاقب اثنين على دابة تارة يركب هذا وتارة هذا يتناوبانها {وَاتَّقُوا اللهَ} بترك المعاصي، {الَّذِي أَنْتُم بِهِ} قدم للحصر والفاصلة، {مُؤْمِنُونَ} فإِن الإِيمان بلا تقوى غير نافع.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون).. وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب. وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقا واقعيا للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها؛ وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما ترتب على نزولها إِباء المشركين من أن يردّوا إلى أزواج النساء اللاءِ بقين على الكفر بمكة واللائي فَرَرْنَ من المدينة والتحَقْنَ بأهل الكفر بمكة مهورَهم التي كانوا أَعطوها نساءهم، عقبت بهذه الآية لتشريع ردّ تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم. روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من الترادِّ بين الفريقين في قوله تعال: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} [الممتحنة: 10]. فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} الآية. وأصل الفوت: المفارقة والمباعدة، والتفاوت: المتباعد. والفوت هنا مستعار لضياع الحق والمعنى: إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقَّبتم على أزواج الكفار وعقَّب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته، أي ما هو حقه، واحجزوا ذلك عن الكفار. وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور مَن فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار.والوجه أن لا يُصار إلى الإِعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء من مهور نساء المشركين اللاءِ أتيْنَ إلى بلاد الإِسلام وصرن أزواجاً للمسلمين. ولفظ {شيء} هنا مراد به: بعض {من أزواجكم} بيان ل {شيء}، وأريد ب {شيء} تحقير الزوجات اللائي أبَيْن الإِسلام، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها. وضمّن فعل {فاتكم} معنى الفرار فعدّي بحرف {إلى} أي فررن إلى الكفار. و« عاقبتم» صيغة تفاعل من العُقْبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيرُه. ففعل {ذهبت} مجاز مثل فعل {فاتكم} في معنى عدم القدرة عليهن. والخطاب في قوله: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} وفي قوله: {فآتوا} خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضاً من المؤمنين. والمعنى: فليعْط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم. والذي يتولى الإِعطاء هنا هو كما قررنا في قوله: {آتوهم ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] أي يُدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة وأفاد لفظ {مثل} أن يكون المهرُ المعطى مساوِياً لما كان أعطاه زوج المرأة من قبلُ لا نقص فيه. وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قُريبَة وأمَّ جرول، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر. وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10]. والتذييل بقوله: {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدّهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإِخوانهم مهور النساء اللائي فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف {الذي أنتم به مؤمنون} لأن الإِيمان يبعث على التقوى والمشركون لمّا لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإِنصاف، أي فلا تكونوا مثلهم. والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

العدل حتّى مع الأعداء:

من خلال استعراضنا الآيات الكريمة أعلاه نلاحظ عمق الدقّة وروعة الظرافة واللطف في طبيعة الأحكام التي وردت فيها، موضّحة إلى أي حدٍّ يهتمّ الإسلام بأصل العدالة والقسط في تشريع أحكامه حتّى في أحرج الظروف وأصعبها، لأنّه يسعى لتعميم الخير وإبعاد الأذى والضرر حتّى عن الكفّار. في الوقت الذي نلاحظ أنّ العرف العامّ في حياتنا العملية يتعامل في الظروف والأوقات العصيبة بخصوصية معيّنة واستثناء خاصّ ويتخلّى عن الكثير من قيم الحقّ والعدل ويدّعي أن لا مكان لإحقاق الحقّ فيها.. في حين تؤكّد التشريعات الإلهية على تحمّل كلّ صعوبة حتّى في أدقّ الظروف وأشدّها ضيقاً منعاً لهدر أيّ حقّ، لا للقريبين فقط. بل حتّى للأعداء، إذ يجب أن يحافظ على حقوقهم وترعى حرماتهم. إنّ مثل هذه الأحكام الإسلامية هي في الحقيقة نوع من الإعجاز، ودليل على حقّانية دعوة الرّسول الأعظم حيث السعي بمنتهى الجهد لإقامة العدل حتّى في أسوأ حالات الانتهاك للحرمات الإسلامية في مجال النفس والمال كما كان عليه فعل المجتمع الجاهلي.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى- قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } في الخبر : أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } . وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حكم الله عز وجل بينكم فقال جل ثناؤه : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها . فكتبوا إليهم : أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا ، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به ، فأنزل الله عز وجل : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض . قال الزهري : ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا . وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة . وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد . وقالا : ومعنى " فعاقبتم " فاقتصصتم . " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " يعني الصدقات . فهي عامة في جميع الكفار . وقال قتادة أيضا : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين{[14913]} بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا . ثم نسخ هذا في سورة " التوبة " . وقال الزهري : انقطع هذا عام الفتح . وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضا . حكاه القشيري .

الثانية- قوله تعالى : " فعاقبتم " قراءة العامة " فعاقبتم " وقرأ علقمة والنخعي وحميد والأعرج " فعقبتم " مشددة . وقرأ مجاهد " فأعقبتم " وقال : صنعتم كما صنعوا بكم . وقرأ الزهري " فعقبتم " خفيفة بغير ألف . وقرأ مسروق وشقيق بن سلمة " فعقبتم " بكسر القاف خفيفة . وقال : غنمتم . وكلها لغات بمعنى واحد . يقال : عاقب وعَقَب وعَقَّب وأعقب وتَعَقّب واعتقب وتعاقب إذا غنم . وقال القتبي " فعاقبتم " فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو . وقال ابن بحر : أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين .

الثالثة- قوله تعالى : { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } قال ابن عباس : يقول إن لحضت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم ، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : يعطي من مال الفيء . وعنه يعطى من صدق من لحق بنا . وقيل : أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم . قال الأعمش : هي منسوخة . وقال عطاء : بل حكمها ثابت . وقد تقدم جميع هذا . القشيري : والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم القرشي ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام . وحكى الثعلبي عن ابن عباس : هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري{[14914]} . وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما هاجر عمر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبدالعزى ، كانت تحت هشام بن العاص ، وأم كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب ، وشهبة بنت غيلان ، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة . { واتقوا الله } احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .


[14913]:في ح، ز، س، ط، ل، هـ: "إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد" بزيادة "ليس".
[14914]:هو عياض بن غنم بن زهير بن أبي شداد القرشي الفهري.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

ولما كان المظنون بالكفار عدم العدل فلا يعطون المؤمنين مهور نسائهم الكافرات ، قال مداوياً لذلك الداء{[64692]} : { وإن فاتكم } أي بالانفلات منكم بعد الهجرة أو بإدامة الإقامة في بلاد{[64693]} الحرب { شيء } أي قل أو كثر { من أزواجكم } أي من أنفسهن أو مهورهن { إلى } أي متحيزاً أو واصلاً{[64694]} إلى { الكفار } فعجزتم عنه { فعاقبتم } أي تمكنتم من المعاقبة بأن فات الكفار شيء من أزواجهم بالهجرة إليكم أو اغتنمتم{[64695]} من أزواج{[64696]} الكفار فجاءت نوبة{[64697]} ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم عصياناً وظلماً ، { فآتوا } أي فاحضروا{[64698]} وأعطوا من مهر المهاجرة ، { الذين ذهبت أزواجهم } أي{[64699]} منكم إن اختاروا الأخذ ، { مثل ما أنفقوا } على الكافرة الفائتة إلى{[64700]} الكفار مما غنمتم من أموالهم أو بأن تدفعوا إليهم مثل مهر أزواجهم مما{[64701]} كنتم تعطونه{[64702]} لأزواج المهاجرات ، فيكون ذلك جزاء وقصاصاً لما فعل الكفار .

ولما كان التجزي في مثل ذلك عسراً على النفس{[64703]} فإن المهور تتفاوت تارة وتتساوى تارة أخرى وتارة تكون نقوداً و{[64704]}تارة تكون عروضاً إلى غير ذلك من الأحوال مع أن المعامل عدو في الدين فلا يحمل على العدل فيه إلا خالص التقوى قال : { واتقوا } أي في الإعطاء والمنع وغير ذلك{[64705]} { الله } الذي له صفات الكمال وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون ، ثم وصفه بما يؤكد صعوبة الأمر{[64706]} ويحث على العدل فقال ملهباً لهم كل الإلهاب هازاً لهم بالوصف بالرسوخ {[64707]}في الإيمان{[64708]} : { الذي أنتم به } أي خاصة { مؤمنون * } أي متمكنون في رتبة الإيمان .


[64692]:- زيد من ظ وم.
[64693]:- من ظ وم، وفي الأصل: دار.
[64694]:- من ظ وم، وفي الأصل: أوصلا
[64695]:- في م: غنمتم.
[64696]:- زيد من ظ.
[64697]:- من ظ وم، وفي الأصل: نوبته.
[64698]:- من ظ وم، وفي الأصل: فاحصوا.
[64699]:- زيد من ظ وم.
[64700]:- من ظ وم، وفي الأصل: على.
[64701]:- من ظ وم، وفي الأصل: ما.
[64702]:- من م، وفي الأصل وظ: تعطون.
[64703]:- من ظ وم، وفي الأصل: النفوس.
[64704]:- من ظ وم، وفي الأصل: أو.
[64705]:- زيد في الأصل: راقبوا، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[64706]:- من ظ وم، وفي الأصل: البر.
[64707]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالإيمان.
[64708]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالإيمان.