تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا} (160)

يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ، حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم ، كما قال ابن أبي حاتم :

حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عَمْرو ، وقال : قرأ ابن عباس : " طيبات كانت أحلت لهم " .

وهذا التحريم قد يكون قدريا ، بمعنى : أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم ، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم ، فحرموها على أنفسهم ، تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعا . ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى : أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك ، كما قال تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } [ آل عمران : 93 ] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد : أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم ، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها . ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه . ولهذا قال : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } أي : صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق . وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل ، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء ، وكذَبوا عيسى ومحمدًا ، صلوات الله وسلامه عليهما .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا} (160)

إن كان متعلَّق قوله : { فبما نقضهم } النساء : 155 ) محذوفاً على أحد الوجهين المتقدّمين كان قوله : { فبظلم } مفرّعاً على مجموع جرائمهم السالفة . فيكون المراد بظلمهم ظلماً آخر غير ما عُدّد من قبل ، وإن كان قوله : { فبما نقضهم } [ النساء : 155 ] متعلّقاً بقوله : { حرّمنا عليهم } فقوله : { فبظلم } الخ بَدَل مطابق من جملة { فبما نقضهم ميثاقهم } [ النساء : 155 ] بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل . وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلّقه بقوله : { حرّمنا عليهم طيّبات } إذ بَعُد ما بينه وبين متعلّقه ، وهو قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم } [ النساء : 155 ] ليقوى ارتباط الكلام . وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه : لأنّ نقض الميثاق ، والكفر ، وقتل الأنبياء ، وقولهم قلوبنا غلف ، وقولهم على مريم بهتاناً ، وقولهم قتلنا عيسى : كلّ ذلك ظلم . فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدّم ، كأنَّه قيل : فبذلك كلّه حرّمنا عليهم ، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنّه أحسن تفنّناً ، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة . وقد مرّ بيان ذلك قريباً عند قوله تعالى : { فبما نقضهم } [ النساء : 155 ] . ويجوز أن يكون ظلماً آخر أجْملَهُ القرآن .

وتنكير ( ظلم ) للتعظيم ، والعدولُ عن أن يقول « فبظلمهم » ، حتّى تأتي الضمائر متتابعة من قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم } إلى آخره ، إلى الاسم الظاهر وهو { الَّذين هادوا } لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها : وهي { فبما نقضهم } [ النساء : 155 ] . ولأنّ في الموصول وصلته ما يقتضي التنزّه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم ، فقالوا : { إنّا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] ؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محلّ استغراب .

والآية اقتضت : أنّ تحريم ما حرّم عليهم إنَّما كان عقاباً لهم ، وأنّ تلك المحرّمات ليس فيها من المفاسد ما يتقضي تحريم تناولها ، وإلاّ لحُرمّت عليهم من أوّل مجيء الشريعة . وقد قيل : إنّ المراد بهذه الطيّبات هو ما ذكر في قوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظُفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما } إلى قوله { ذلك جزيناهم ببغيهم } في سورة الأنعام ( 146 ) ، فهذا هو الجزاء على ظلمهم .

نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبّار أنَّه قال : نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأنّ التكليف تعريض للثواب ، والتعريض للثواب إحسان ، فلم يُجِز أن يكون التكليف جزاء على الجرم . قال الفخر : والجواب أنّ المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم .

وهذا الجواب مصادرة على أنّ ممّا يقوّي الإشكال أنّ العقوبة حقّها أن تُخصّ بالمجرمين ثُمّ تنسخ . فالذي يظهر لي في الجواب : إمَّا أن يكون سبب تحريم تلك الطيّبات أنّ ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوَة صار ذلك طبعاً في أمزجتهم فاقتضى أن يلطِّف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع ، ولذلك لمّا جاءهم عيسى أحلّ الله لهم بعض ما حرّم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم ، وإمّا أن يكون تحريم ما حرّم عليهم عقاباً للذين ظلموا وبغوا ثُمّ بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذِكْرى ويكون للأوّلين سُوء ذِكر من باب قوله :

{ واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [ الأنفال : 25 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأولِ كِفْل من دمها » . ذلك لأنّه أوّل من سَنّ القتل . وإمّا لأنّ هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيّبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نيّة الامتثال للنهي ، لندرة حصول هذه النيّة في التّرك .

وصَدّهم عن سبيل الله : إن كان مصدرَ صَدّ القاصر الذي مضارعه يصِدّ بكسر الصاد فالعنى بإعراضهم عن سبيل الله ؛ وإن كان مصدر المتعدّي الذي قِياس مضارعه بضمّ الصاد ، فلعلّهم كانوا يصدّون النّاس عن التقوى ، ويقولون : سيغفر لنا ، من زمن موسى قبل أن يحرّم عليهم بعض الطيّبات . أمّا بعد موسى فقد صدّوا النّاس كثيراً ، وعاندوا الأنبياء ، وحاولوهم على كتم المواعظ ، وكذّبوا عيسى ، وعارضوا دعوة محمّد صلى الله عليه وسلم وسوّلوا لكثير من النّاس ، جهراً أو نفاقاً ، البقاء على الجاهليّة ، كما تقدّم في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [ النساء : 51 ] الآيات . ولذلك وصف ب { كثيراً } حالاً منه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا} (160)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فبظلم من الذين هادوا}: اليهود، {حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم}: في الأنعام، يعني اللحوم والشحوم وكل ذي ظفر لهم حلال، فحرمها الله عز وجل عليهم بعد موسى، {وبصدهم عن سبيل الله كثيرا}، فيها إضمار، يقول: {وبصدهم عن سبيل الله كثيرا}، يعني دين الإسلام، وعن محمد صلى الله عليه وسلم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه طيبات من المآكل وغيرها كانت لهم حلالاً، عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنهم في كتابه... عوقب القوم بظلم ظَلَموه وبَغْيٍ بَغَوه حرّمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم.

"وَبِصَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا": وبصدّهم عباد الله عن دينه وسبله التي شرعها لعباده صدّا كثيراٍ، وكان صدّهم عن سبيل الله بقولهم على الله الباطل، وادّعائهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله وتحريف معانيه عن وجوهه، وكان من عظيم ذلك جحودهم نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتركهم بيان ما قد علموا من أمره لمن جهل أمره من الناس.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} فبأي ظلم منهم. والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه. وهو ما عدّد لهم من الكفر والكبائر العظيمة. والطيبات التي حرّمت عليهم: ما ذكره في قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و «الطيبات» هنا: هي الشحوم وبعض الذبائح والطير والحوت وغير ذلك، وقرأ ابن عباس «طيبات كانت أحلت لهم».

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق، والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله {وبصدهم عن سبيل الله} ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص في طلب المال، فتارة يحصلونه بالربا مع أنهم نهوا عنه، وتارة بطريق الرشوة وهو المراد بقوله {وأكلهم أموال الناس بالباطل} ونظيره قوله تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فهذه الأربعة هي الذنوب الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا وفي الآخرة، أما التشديد في الدنيا فهو الذي تقدم ذكره من تحريم الطيبات عليهم، وأما التشديد في الآخرة فهو المراد من قوله {وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما}.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{من الذين هادوا} أي تلبسوا باليهودية في الماضي ادعاء أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق، ولم يضمر تعييناً لهم زيادة في تقريعهم {حرمنا عليهم طيبات أحلت} أي كان وقع إحلالها في التوراة {لهم} كالشحوم التي ذكرها الله تعالى في الأنعام. ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته، وبدأها بإعراضهم عن الدين الحق، فقال معيداً للعامل تأكيداً له: {وبصدهم عن سبيل الله} أي الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم، لكون الذي نهجه له من العظمة والحكمة ما لا يدرك... فمُنِعوا مستلذات تلك المآكل بما مَنَعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بين الله في الآيات السابقة ما كان من اليهود من نقض العهد والكفر وقتل الأنبياء... ثم بين في هذه الآيات جزاءهم على ما دون ذلك من سيئاتهم فقال: {فَبظلم منَ الَّذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} أي فإذا كان هؤلاء اليهود قد استحقوا بظلم ما ظلموا به أنفسهم أن نحرم عليهم طيبات كانت أحلت لهم ولمن قبلهم، فحرمناها عليهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، فكيف لا يستحقون أكبر الخزي والنكال في الدنيا والآخرة بنقضهم ميثاق ربهم، وقتلهم لأنبيائه ورسله، وكفرهم بالمسيح وبهتهم لأمه، وتبجحهم بدعوى قتله وصلبه؟ فتعليل تحريم الطيبات عليهم بظلم مبهم منهم، وبما ذكر بعده من المعاصي عطفا عليه زائدا عنه أو بيانا له يدل على العقاب العظيم والخزي الكبير الذي يستحقونه على نقض الميثاق الأكبر وما عطف عليه من الكفر والموبقات، وهو المتعلق المحذوف لقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم...) فهو قد حذف ذلك المتعلق، ثم ذكر عقابهم في الدنيا على ما دون ذلك وهو تحريم بعض الطيبات عليهم، فعلم منه أن ذلك المتعلق المحذوف يشمل كل ما أصابهم في الدنيا من الخزي والنكال وفقد الاستقلال، وختم الآيات بذكر عذابهم في الآخرة.

أما الطيبات التي حرمها الله عليهم فهي مبينة بقوله عز وجل: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام:147] الآية هكذا ذهب بعض المفسرين. وتوقف بعضهم فلم يجزم بتعيين ما حرم عليهم، ولم يعرف ما نكره الكتاب. وفي الفصل الحادي عشر من سفر الأوليين (الأحبار) تفصيل ما حرم عليهم في التوراة من حيوانات البر والبحر وهي كثيرة جدا. وكانت قد أحلت لهم بقاعدة كون الأصل في الأشياء الحل بإحلالها لسلفهم كما ورد في قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [آل عمران:93] فليراجع تفسير هذه الآية في أول جزء التفسير الرابع. وتقديم (فبظلم) على (حرمنا) يفيد الحصر أي حرم عليهم ذلك بسبب الظلم لا بسبب آخر. وقد أبهم ما حرم عليهم هنا لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة لا بيانه في نفسه، كما أبهم ما حرم عليهم هنا لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة لا بيانه في نفسه، كما أبهم الظلم الذي كان سببا له، ليعلم القارئ والسامع أن أي نوع من الظلم يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة، هذا إذا لم يكن ما عطف عليه بيانا له، والعقاب قسمان: دنيوي وأخروي، ولكل منها أقسام سيأتي بسطها. ومن الدنيوي التكاليف الشرعية الشاقة في زمن التشريع، والجزاء الوارد فيها على الجرائم من حد أو تعزيز، وما اقتضته سنن الله تعالى في نظام الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها، واستيلاء أمة أخرى على ملكها.

وأما قوله تعالى: {وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} فهو عطف على قوله، (فبظلم) وقد أشرنا آنفا إلى احتمال أنه هو وما عطف عليه مبين له أي للظلم، وهو حينئذ لا ينافي الحصر، لأن العطف على المعمول المتقدم على عامله ينافي الحصر إذا كان المعطوف مغاير له، وأما إذا كان مبينا له فهو عينه. ويجوز أن يكون عطف مغايرة وأن يكون تقديم ذكر الظلم للاهتمام ببيان قبح قليله وكثيره واقتضائه العقاب لا للحصر. وقيل إن بصدهم متعلق بمحذوف، أي بسبب صدهم على سبيل الله الخ شددنا عليهم في أحكام التكاليف أخرى كالبقرة التي أمروا بذبحها في حادثة القتيل التي تقدمت في الجزء الأول. وعلى الأول يكون من البيان والتفصيل بعد الإبهام والإجمال، وهو أوقع في النفس، وأبلغ في العبرة والموعظة.

والصدود والصد يستعمل لازما ومتعديا ومعناه المنع. أي صدودهم أنفسهم عن سبيل الله مرارا كثيرة بما كانوا يعصون موسى عليه السلام ويعاندونه، أو صدهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقال بعض المفسرين إن المراد صدهم الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأوقعوا أنفسهم بهذا التفسير في الإشكال وحار بعضهم في الخروج منه، ونسوا أنهم كانوا في غنى عن الدخول فيه، حتى عد بعضهم الآية من أكبر المشكلات، لأن تحريم تلك الطيبات على بني إسرائيل كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يكون الصد عن الإيمان به سببا لها والسبب يجب أن يكون قبل المسبب؟ ويتفصى بعضهم من الإشكال بجعل هذا الصد متعلقا بفعل محذوف كما تقدم. وتساءل بعضهم: من حرم ذلك عليهم ومتى كان؟ وبمثل هذه الأفهام الضعيفة وتقليد بعضهم لبعض يولدون لنا شبها على القرآن وأصل الدين، ينقلها الكافرون به عنهم ويطعنون بها في بلاغته وبيانه، والصواب ما جرينا عليه أولا وأن صدهم عن سبيل هو إعراضهم عن هداية دينهم غواية وإغواء. وذلك مفصل في كتبهم الدينية.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بذلك يحسم القرآن الكريم قصة الصلب. ثم يعود بعدها إلى تعداد مناكر اليهود؛ وما نالهم عليها من الجزاء الأليم في الدنيا والآخرة.

(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. وبصدهم عن سبيل الله كثيرا. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه. وأكلهم أموال الناس بالباطل. وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليمًا)..

فيضيف إلى ما سبق من مناكرهم هذه المنكرات الجديدة: الظلم. والصد الكثير عن سبيل الله. فهم ممعنون فيه ودائبون عليه.

وأخذهم الربا -لا عن جهل ولا عن قلة تنبيه- فقد نهوا عنه فأصروا عليه! وأكلهم أموال الناس بالباطل. بالربا وبغيره من الوسائل.

بسبب من هذه المنكرات، ومما أسلفه السياق منها.. حرمت عليهم طيبات كانت حلالا لهم. وأعد الله للكافرين منهم عذابا أليمًا.

وهكذا تتكشف هذه الحملة عن كشف طبيعة اليهود وتاريخهم؛ وفضح تعلاتهم وعدم الاستجابة للرسول وتعنتهم؛ ودمغهم بالتعنت مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم؛ ويسر ارتكابهم للمنكر وجهرهم بالسوء في حق الأنبياء والصالحين. بل قتلهم والتبجح بقتلهم! وتسقط بذلك وتتهاوى دسائس اليهود في الصف المسلم وكيدهم ومكرهم وحبائلهم. وتعرف الجماعة المسلمة -ما ينبغي أن تعرفه الأمة المسلمة في كل حين- عن طبيعة اليهود وجبلتهم، ووسائلهم وطرائقهم؛ ومدى وقوفهم للحق في ذاته سواء جاء من غيرهم أو نبع فيهم. فهم أعداء للحق وأهله، وللهدى وحملته. في كل أجيالهم وفي كل أزمانهم. مع أصدقائهم ومع أعدائهم.. لأن جبلتهم عدوة للحق في ذاته؛ جاسية قلوبهم، غليظة أكبادهم لا يحنون رؤوسهم إلا للمطرقة! ولا يسلمون للحق إلا وسيف القوة مصلت على رقابهم..

وما كان هذا التعريف بهذا الصنف من الخلق، ليقصر على الجماعة المسلمة الأولى في المدينة. فالقرآن هو كتاب هذه الأمة ما عاشت، فإذا استفتته عن أعدائها أفتاها، وإذا استنصحته في أمرهم نصح لها؛ وإذا استرشدت به أرشدها. وقد أفتاها ونصح لها وأرشدها في شأن يهود، فدانت لها رقابهم.. ثم لما اتخذته مهجورا دانت هي لليهود، كما رأيناها تتجمع فتغلبها منهم الشر ذمة الصغيرة، وهي غافلة عن كتابها.. القرآن.. شاردة عن هدية، ملقية به وراءها ظهريا! متبعة قول فلان وفلان!! وستبقى كذلك غارقة في كيد يهود وقهر يهود، حتى تثوب إلى القرآن..

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

في قلوبهم قسوة، وفي نفوسهم جفوة، وعقولهم غلف لا تنفتح للحق، ولا تذعن له، ظهرت آياته وقامت بيناته، أتتهم آيات الحق والمعجزات فكذبوا بها وطلبوا غيرها وقالوا أرنا الله جهرة، ورأوا الجبل يعلو عليهم فقبلوا ميثاق الإيمان، ثم نقضوه وقتلوا بعض الأنبياء لغلظ قلوبهم وانطماسها، وغفلتها عن الحق، ورموا مريم البتول ببهتان وكذب، ومحاولتهم قتل عيسى ابن مريم رسول الله، وافتخارهم لقتله وما قتلوه، فهذه مظالم تتلوها مظالم، ولا بد من تربية نفوسهم على الحق، وتهذيبها لتذعن له، والنفس الشرهة الشرسة لا يهذبها إلا الحرمان أبدا، عسى أن تنقشع عنها غياهب المادة فترى، ولذا قال سبحانه:

{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} الظلم هنا خاص بالكفر الذي ذكرته الآيات سابقا كفروا بمواثيق الله، ولم يذعنوا للحق، إذعانا ظاهرا إلا بعد تهديد غليظ، ثم نقضوا ما عاهدوا الله تعالى عليه وقتلوا الأنبياء وكذبوا على الأبرياء.

فالظلم إذن هو هذا الكفر الذي أوغلوا فيه إيغالا. ولا شك أن ما جاء بعد ذلك ظلم بين، فالصد عن سبيل الله ظلم، وأخذهم الربا ظلم، وأكلهم أموال الناس بالباطل ظلم، وكل واحدة من هذه الجرائم التي أركسوها فيها ظلم وذنب، ولذلك صح أن تذكر كل واحد منها منفردة، وإن كانت تدخل في عموم كلمة ظلم. ولكن عند اجتماعها مع هذه الجرائم تخصص كل كلمة بما ذكر أولا أنهم ارتكبوه ودل على غلظ أكبادهم وقسوة قلوبهم، وكفرهم الصريح وهو أشد أنواع الظلم، وإن الشرك لظلم عظيم.

وقد ذكر سبحانه وتعالى العقوبة بقوله تعالى:

{حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} هذا هو حكم الله تعالى الذي قرره تهذيبا وتأديبا لهم، وفطما لنفوسهم عن الشهوات ولقلوبهم التي استغرقتها المادة، والنفوس إذا فطمت تتهذب، وقد تذهب قسوتها. حرم الله سبحانه وتعالى أمورا كانت حلالا لهم، وهي بتكوينها من الطيبات التي أحلها الله تعالى، وليست من الخبائث التي يحرمها الله تعالى، فهي في أصل تكوينها طيبات من شأنها الحل، ولكن حرم بعضها عليهم تهذيبا وتربية لكي تذهب عن قلوبهم بعض القسوة، وبعض الأنانية التي استولت عليها، والتنكير في قوله تعالى:"طيبات" فيه إشارة إلى أنه لم تحرم كل الطيبات بل بعض منها وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)} (الأنعام).

وإنه يلاحظ أن هذه المحرمات من الطيبات من شأن الإكثار منها أن يوجد شحما في الجسم واسترخاء، وحيث كان الجسم كذلك تضعف الهمة، وحيث ضعفت الهمة كانت محبة المادة، والكسب الرخيص وطلب من غير الله، وقد كانوا كذلك، وقد كانوا لا همة لهم إلا في الكسب الرخيص ولا همة لهم في دفع اعتداء، فقد كانوا يقولون لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24)} (المائدة)، وهمتهم الكبرى في الإيذاء لخمول قلوبهم بقدر خمول أجسامهم.

وكان في فطمهم عن الشحوم، وما يزيد البدن ترهلا، تهذيبا لنفوسهم وتقوية لأبدانهم وفتح باب الهمة العليا لهم.

ومن المظالم التي ارتكبوها صدهم أنفسهم عن طريق الحق، وصدهم غيرهم ومنع غير اليهود من أن يدخلوا في ديانة موسى، ولذا قال سبحانه: {وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} أي صدا كثيرا في ذاته أو صدا لناس كثيرين.

وقد ذكر سبحانه وتعالى بقية الأسباب التي أوجبت ذلك التحريم فقال: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل}.