تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا} (160)

يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ، حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم ، كما قال ابن أبي حاتم :

حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عَمْرو ، وقال : قرأ ابن عباس : " طيبات كانت أحلت لهم " .

وهذا التحريم قد يكون قدريا ، بمعنى : أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم ، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم ، فحرموها على أنفسهم ، تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعا . ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى : أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك ، كما قال تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } [ آل عمران : 93 ] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد : أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم ، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها . ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه . ولهذا قال : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } أي : صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق . وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل ، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء ، وكذَبوا عيسى ومحمدًا ، صلوات الله وسلامه عليهما .