اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا} (160)

قوله - تعالى - : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ } الآية لمَّا ذكر قَبَائِح أفْعَالِ اليَهُودِ ، ذكر عَقِيبَهُ تشديدَهُ - تعالى - عليْهِم في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، أما تَشْدِيدُه في الدُّنْيَا ، فهو تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ عليهم وكانتْ مُحَلَّلَةً لهم قَبْل ذلك ؛ لقوله - تعالى - : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] إلى قوله [ - تعالى - ]{[10330]} : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ }

[ الأنعام : 146 ] وقيل : لمحمد عليه السلام .

قوله سبحانه : " فَبِظُلمٍ " : هذا الجارُّ متعلِّق ب " حَرَّمْنَا " والباء سببية ، وإنما قُدِّم على عاملِه ؛ تنبيهاً على قبح سبب التحريمِ ، وقد تقدَّم أنَّ قوله : " فَبِظُلْمٍ " بدلٌ من قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } ، وتقدَّم الردُّ على قائله أيضاً فأغْنَى عن إعادته ، و " مِنَ الذِينَ " صفة ل " ظُلْم " أي : ظُلْمٍ صادر عن الذين هادُوا ، وقيل : ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعلْمِ بها ، أي : فبظُلْمٍ أيِّ ظُلْمٍ ، أو فبِظُلْمٍ عَظِيمٍ ؛ كقوله : [ الطويل ]

فَلاَ وَأبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بِالضُّحَى *** عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ{[10331]}

أي : لَحْمٍ عظيمٍ .

قوله جلَّ وعلا : " أُحِلَّتْ لَهُمْ " هذه الجملةُ صفةٌ ل " طَيِّبَات " فمحلُّها نصبٌ ، ومعنى وصفها بذلك ، أي : بما كانَتْ عليه مِنَ الحِلِّ ، ويوضِّحه قراءة ابن عباس : " كانَتْ أُحِلَّتْ لَهُم " والمُرَادُ من ظُلْمِهِم : ما تقدَّم ذِكْرُه من نَقْضِ الميثاقِ ، وكُفْرِهِم بآيَاتِ اللَّهِ ، وبُهْتَانِهِم على مَرْيَمَ ، وقولهم : " إنا قتلنا المسيح " { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ } وهو ما ذُكِرَ في سُورَةِ الأنْعَامِ [ الأنعام : 146 ] " وبصَدِّهِمْ " وبصرْفِهِم{[10332]} أنْفُسهم وغيرهم { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } عن دين اللَّهِ .

قوله : " كثيراً " فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول به ، أي : بصدِّهم ناساً ، أو فريقاً ، أو جمعاً كثيراً ، وقيل : نصبُه على المصدرية ، أي : صَدّاً كثيراً ، وقيل : على ظرفية الزمان ، أي : زماناً كثيراً ، والأوَّل أوْلَى ؛ لأنَّ المصادر بَعْدها ناصبةٌ لمفاعليها ، فيجري البابُ على سَنَنٍ واحدٍ ، وإنما أعيدتِ الباءُ في قوله : " وَبِصَدِّهِمْ " ولم تَعُدْ في قوله : " وأخْذِهِمْ " وما بعده ؛ لأنه قد فُصِلَ بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه ، بل بالعامل فيه وهو " حَرَّمْنَا " وما تعلَّق به ، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف عليه بالفصْلِ بما ليس معمولاً للمعطُوف عليه ، أعيدت الباءُ لذلك ، وأمَّا ما بعده ، فلم يُفْصَلْ فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطُوفِ عليه وهو " الرِّبَا " .


[10330]:سقط في أ.
[10331]:تقدم.
[10332]:في ب: وصرفهم.