ثم بين تعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال : { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } أي : وهذا حال كل من خرج عن الحق ، مهما قال بعد ذلك فهو باطل . والمريج : المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله ، كقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8 ، 9 ] .
إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 2 ] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال ، أو بدل من جملة { بل عجبوا أن جاءهم منذر } لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب ، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف . والمقصد من هذه الجملة : أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق .
والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر .
و { لمّا } حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، وقوله { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] وقد مضيا في سورة البقرة . ومعنى { جاءهم } بلغهم وأعلموا به .
والمعنى : أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله ، وهو أول حق جاء به القرآن ، ولذلك عقب بقوله : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } إلى قوله : { وأحيينا به بلدة ميتا } [ ق : 6 11 ] . فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره .
وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية .
و { أمر } اسم مبهم مثل شيء ، ولما وقع هنا بعد حرف { في } المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال { في } استعارة تبعية .
والمريج : المضطرب المختلط ، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب ، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا : { سحر مبين } [ المائدة : 110 ] ، وقالوا { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] وقالوا { قول شاعر } [ الحاقة : 41 ] ، وقالوا : { قول كاهن } [ الحاقة : 42 ] وقالوا : ( هذيان مجنون ) . وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب . ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله . وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استأنف {بل كذبوا بالحق} يعني القرآن {لما جاءهم} يعني حين جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم {فهم في أمر مريج} يعني مختلف ملتبس...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون" أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ "في قيلهم هذا "بَلْ كَذّبُوا بالحَقّ"، وهو القرآن "لَمّا جَاءَهُمْ" من الله... "فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ" يقول: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس، لا يعرفون حقه من باطله...
وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها، وإن كانت متقاربات المعاني، فقال بعضهم: معناها: فهم في أمر منكر وقال: المريج: هو الشيء المنكر...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: في أمر مختلف...
وقال آخرون: بل معناه: في أمر ضلالة...
وقال آخرون: بل معناه: في أمر مُلْتبِس...
وإنما قلت: هذه العبارات وإن اختلفت ألفاظها فهي في المعنى متقاربات، لأن الشيء مختلف ملتبس، معناه مشكل. وإذا كان كذلك كان منكرا، لأن المعروف واضح بيّن، وإذا كان غير معروف كان لا شكّ ضلالة، لأن الهدى بيّن لا لبس فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قالوا في الرسول صلى لله عليه وسلم أقوالا مضطربة مختلفة: مرة نسبوه إلى السحر، ومرة إلى الشّعر، ومرة إلى الجنون، ومرة إلى الافتراء على الله تعالى وإنه يتلقّاه من فلان، ونحو ذلك من أقوال مختلفة مضطربة في ما يدفع كل واحد من ذلك الآخر. وكذلك قالوا في القرآن: مرة إنه سحر، ومرة إنه شعر، وأنه من أساطير الأولين، وإنه مفترى، وإنه اختلاق، وكل ذلك مما يدفع بعضه بعضا. وهذا هو الاضطراب والاختلاف والاختلاط، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَلْ كَذَّبُواْ} إضراب أتبع الإضراب الأوّل، للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم؛ وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل وهلة من غير تفكر ولا تدبر {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ}: مضطرب...
{بل عجبوا} يدل على أمر سابق أضرب عنه، وقد ذكرنا أنه الشك وتقديره: والقرآن المجيد، إنك لمنذر، وإنهم شكوا فيك، بل عجبوا، بل كذبوا. وهذه مراتب ثلاث الأولى: الشك وفوقها التعجب، لأن الشاك يكون الأمران عنده سيين، والمتعجب يترجح عنده اعتقاد عدم وقوع العجيب لكنه لا يقطع به، والمكذب الذي يجزم بخلاف ذلك، فكأنهم كانوا شاكين وصاروا ظانين وصاروا جازمين فقال: {فهم في أمر مريج} ويدل عليه الفاء في قوله {فهم} لأنه حينئذ يصير كونهم {في أمر مريج} مرتبا على ما تقدم وفيما ذكروه لا يكون مرتبا. فإن قيل: المريج: المختلط، وهذه أمور مرتبة متميزة على مقتضى العقل، لأن الشاك ينتهي إلى درجة الظن، والظان ينتهي إلى درجة القطع، وعند القطع لا يبقى الظن، وعند الظن لا يبقى الشك، وأما ما ذكروه ففيه يحصل الاختلاط لأنهم لم يكن لهم في ذلك ترتيب، بل تارة كانوا يقولون كاهن وأخرى مجنون، ثم كانوا يعودون إلى نسبته إلى الكهانة بعد نسبته إلى الجنون، وكذا إلى الشعر بعد السحر وإلى السحر بعد الشعر، فهذا هو المريج...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{بل كذبوا بالحق} أي الأمر الثابت الذي لا أثبت منه {لما} أي حين {جاءهم} لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس وغلبهم من الهوى، حسداً منهم من غير تأمل لما قالوه ولا تدبر...
{فهم} أي لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف {في أمر مريج} أي مضطرب جداً مختلط، من المرج وهو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة، فهم تارة- يقولون: سحر، وتارة كهانة، وتارة شعر، وتارة كذب، وتارة غير ذلك، والاضطراب موجب للاختلاف، وذلك أدل دليل على الإبطال كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق، وذلك أدل دليل على الحقية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يكشف عن حقيقة حالهم التي تنبعث منها تلك الاعتراضات الواهية. ذلك أنهم تركوا الحق الثابت، فمادت الأرض من تحتهم، ولم يعودوا يستقرون على شيء أبدا:
(بل كذبوا بالحق لما جاءهم، فهم في أمر مريج)..
وإنه لتعبير فريد مصور مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت، فلا يقر لهم من بعده قرار..
إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه، ولا تضطرب خطاه، لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص. وكل ما حوله -عدا الحق الثابت- مضطرب مائج مزعزع مريج، لا ثبات له ولا استقرار، ولا صلابة له ولا احتمال. فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج، وفقد الثبات والاستقرار، والطمأنينة والقرار. فهو أبدا في أمر مريج لا يستقر على حال!
ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء، وتتناوحه الهواجس، وتتخاطفه الهواتف، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك. ويضطرب سعيه هنا وهناك، وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال. وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين، ولا بملجأ أمين.. فهو في أمر مريج..
إنه تعبير عجيب، يجسم خلجات القلوب، وكأنها حركة تتبعها العيون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} [ق: 2] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال، أو بدل من جملة {بل عجبوا أن جاءهم منذر} لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف. والمقصد من هذه الجملة: أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق.
والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر.
و {لمّا} حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17]، وقوله {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89] وقد مضيا في سورة البقرة. ومعنى {جاءهم} بلغهم وأعلموا به.
والمعنى: أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله، وهو أول حق جاء به القرآن، ولذلك عقب بقوله: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا} [ق: 6 11]. فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره.
وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية.
و {أمر} اسم مبهم مثل شيء، ولما وقع هنا بعد حرف {في} المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال {في} استعارة تبعية.
والمريج: المضطرب المختلط، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا: {سحر مبين} [المائدة: 110]، وقالوا {أساطير الأولين} [الأنعام: 25] وقالوا {قول شاعر} [الحاقة: 41]، وقالوا: {قول كاهن} [الحاقة: 42] وقالوا: (هذيان مجنون). وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب. ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله. وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به.