اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ فَهُمۡ فِيٓ أَمۡرٖ مَّرِيجٍ} (5)

قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ } هذا إضراب ثانٍ ، قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق{[52274]} . وقال أبو حيان : وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأوّل{[52275]} . قال شهاب الدين : وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة . وقيل : قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها : ما أجازُوا النظر بَلْ كَذَّبوا{[52276]} . وما قاله الزمخشري أحسَنُ .

فصل

في المضروب عنه وجهان :

أحدهما : أنه الشكّ تقديره : والقرآن المجيد إنَّك لَمُنْذرٌ ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا .

والثاني : تقديره : لم يكذب المنذر بل كذبوا هم{[52277]} .

وفي المراد بالحق وجوه :

الأول : البرهان القائم على صدق الرسول - ( عليه الصلاة والسلام - ){[52278]} .

الثاني : الفرقان المنزلُ وهو قريب من الأول ؛ لأنه برهانٌ .

الثالث : السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإِنَّها حَقٌّ .

الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق .

فإن قيل : ما معنى الباء في قوله تعالى : ( بالحَقِّ ) ؟ وأيةُ حاجة إليها ؟ يعني أن التكذيبَ متعدٍّ بنفسه فهلْ هي التعدية إلى مفعول ثانٍ أو هي زائدة كما هي قوله تعالى : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون } [ القلم : 5 و6 ] .

فالجواب : أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية ؛ لأن التكذيب ( هو النسبة إلى{[52279]} الكذب ) لكن النسبة توجد تارة في القائلِ وأخرى في القول ، تقول : كَذَّبَنِي فلانٌ وكنت صادقاً ويقول : كَذَّبَ فلانٌ قَوْلِي{[52280]} ، ويقال : كَذَّبَه أي جعله كاذباً وتقول : قلتُ لفلان : زيدٌ يجيء غداً ، فتأخر عمداً حتى كَذَّبَنِي أو{[52281]} كذب قولي . والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين } [ الشعراء : 141 ] وقال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر } [ القمر : 23 ] وفي القول كذلك غيرَ أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [ فاطر : 4 ] . وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ القمر : 42 ] وقال : { كَذَّبُواْ بالحق } [ ق : 5 ] . وقال : { وَكَذَّبَ بالصدق } [ الزمر : 32 ] .

والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر ، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل ، فإن من ضَرَبَ لم يصدر منه غير الضَّرب ، غير أن له محلاً يقع فيه يسمى مضروباً . ثم إن كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال : ضَرَبْتُ عمراً وشَرِبْتُ مَاءً للعلم بأن الضرب لا بدَّ له من محِل يقوم به وكذلك الشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق{[52282]} فيه ؛ فإذا قلت : مَرَرْتُ يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية ، لعدم ظهوره في نفسه ؛ لأن قولك : مَرَّ السَّحَاب يفهم{[52283]} منه مُرُور ، ( و{[52284]} ) لا يفهم مَنْ مَرَّ به .

ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضَّرْبِ والشُّرب وفي الخفاء فوق المرور ، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف للظهور الذي فوق ظهور المرور ، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب ، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضَرَبْتُ بعَمْروٍ إلا إذا جعلته آلة الضرب ، أما إذا ضربته بسوطٍ{[52285]} أو غيره فَلاَ يجوز فيه زيادة الباء ، ولا يجوز : مَرَرْتُهُ{[52286]} إلا مع الاشتراك وتقول : مَسَحْتُهُ ومسحتُ به ، وشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ لأن المسحَ إمرار اليد بالشيء فصار كالمُرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع لمحسن{[52287]} فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً لغيره كالتَّبَع{[52288]} بخلاف الضرب فإنه إمساسُ جسمٍ بجسم بعنف ، فالمضروب داخل في مفهوم الضَّرْب أولاً ، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً ، وإذا عرف هذا فالتكذيب في القائل طاهر ، لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر ، فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية ، وقوله : «لما جاءهم » هو المكذب تقديره : وكَذَّبوا بالحق لما جاءهم الحَقُّ أي لم يؤخروه إلى التفَكر والتدبر{[52289]} .

قوله : لَمَّا جَاءَهُمْ العامة على تشديد «لما » ، وهي إما حرف وجوب لوجوب{[52290]} أو ظرف بمعنى حين{[52291]} كما تقدم . وقرأ الجَحْدريّ لِمَا - بكسر اللام وتخفيف الميم - على أنها لام الجر دخلت على ما المصدرية وهي نظير قولهم : كَتَبْتُهُ لخمسٍ خَلَوْنَ أي عندها{[52292]} .

قوله : فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ، أي مختلط ، قال أبو واقد :

ومَرِجَ الدِّينُ فَأعْدَدْتُ لَهُ *** مُشْرِفَ الأَقْطَارِ مَحْبُوكَ الكَتَدْ{[52293]}

وقال آخر :

فَجَالَتْ والتَمَسْتُ به حَشَاهَا *** فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ{[52294]}

وأصله من الحركة والاضطراب ، ومنه : مرج الخاتم في إصبعه وقال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس .

فصل

قال قتادة : معناه من ترك الحق مرج إليه أمره وألبس عليه دينه . وقال الحسن : ما ترك قومٌ الحقّ إلا مَرج أمرُهُمْ . وقال الزجاج : معنى اختلاط أمرهم أنهم يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرة شاعرٌ ، ومرة ساحرٌ ، ومرة معلّمٌ ، ومرة كاهنٌ ، ومرة معترّ{[52295]} ومرة ينسبونه إلى الجنون فكان أمرهم مُخْتَلِطاً ملتبساً عليهم .


[52274]:الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وانظر كشافه 4/4.
[52275]:قال: وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جوابا للقسم البحر 8/121.
[52276]:ذكره أبو حيان في مرجعه السابق.
[52277]:ذكر الرازي الوجه في تفسيره 28/152 و153
[52278]:زيادة من الأصل ما بين القوسين.
[52279]:ما بين القوسين سقط من نسخة (ب).
[52280]:في الرازي: قول فلان.
[52281]:وفيه: "وكذب" بالواو لا أو.
[52282]:في (ب) متحقق بالاسمية.
[52283]:في (ب) معهم. تحريف.
[52284]:الواو ساقطة من (ب).
[52285]:في (ب) الصوت تحريف.
[52286]:كذا في النسختين وفي الرازي: مروا به بواو الجماعة.
[52287]:في الرازي: بمحسن.
[52288]:وفيه: بغيره كالبيع وهو تحريف فالمقصود ما كتبه الناسخُ.
[52289]:وانظر في هذا كله تفسير أستاذنا الإمام الفخر الرازي 28/153 و145.
[52290]:هذا قول البعض وقال ابن هشام في المغني: حرف وجود لوجود.
[52291]:وهو رأي ابن السراج والفارسي وابن جني وجماعة، وقال ابن مالك: بمعنى إذ وهو حسن لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة وانظر المغني 280 والتسهيل 92، و93 والهمع 1/215.
[52292]:وقال أبو الفتح: بمعنى: "لما جاءهم" أي مجيئه إياهم كقولك: أعطيته ما سأل لطلبه أي: عند طلبه ومع طلبه. وانظر المحتسب 2/212.
[52293]:البيت من الرمل وهو لأبي دؤاد يصف فرسا والبيت رواية البحر وفي اللسان: الدّهر: ويروى الحارك بدل الأقطار وهو أعلى الكاهل والمحبوك المحكم الخلق، والكَتَد: مجتمع الكتفين والمراد أن فيه استواء مع ارتفاع. وانظر البيت في اللسان "حبك" 758 والبحر 8/121 والقرطبي 17/5.
[52294]:من الوافر لعمرو بن الداخل الهذلي وشاهده هو وما قبله في المرج بمعنى الخلط، ورواية البيت كالتهذيب للأزهري وفي اللسان: غصن مريع أي غصن له شُعَب قِصار قد التبست. وانظر التهذيب واللسان "مرج" والطبري 26/776 والدر المنثور 7/590 ومجمع البيان 9/211 والبحر 8/121 والقرطبي 5/17 وديوان الهذليين 3/98.
[52295]:في (ب) مفتر.