التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ فَهُمۡ فِيٓ أَمۡرٖ مَّرِيجٍ} (5)

إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 2 ] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال ، أو بدل من جملة { بل عجبوا أن جاءهم منذر } لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب ، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف . والمقصد من هذه الجملة : أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق .

والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر .

و { لمّا } حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، وقوله { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] وقد مضيا في سورة البقرة . ومعنى { جاءهم } بلغهم وأعلموا به .

والمعنى : أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله ، وهو أول حق جاء به القرآن ، ولذلك عقب بقوله : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } إلى قوله : { وأحيينا به بلدة ميتا } [ ق : 6 11 ] . فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره .

وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية .

و { أمر } اسم مبهم مثل شيء ، ولما وقع هنا بعد حرف { في } المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال { في } استعارة تبعية .

والمريج : المضطرب المختلط ، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب ، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا : { سحر مبين } [ المائدة : 110 ] ، وقالوا { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] وقالوا { قول شاعر } [ الحاقة : 41 ] ، وقالوا : { قول كاهن } [ الحاقة : 42 ] وقالوا : ( هذيان مجنون ) . وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب . ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله . وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به .