تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ} (56)

وقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } يعني : أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ ! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] ، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم ، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء ؛ ولهذا قال : { بَل لا يَشْعُرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } [ آل عمران : 178 ] ، وقال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ القلم : 44 ، 45 ] ، وقال : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا } [ المدثر : 11 - 16 ] وقال تعالى : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] والآيات في هذا كثيرة .

قال{[20569]} قتادة في قوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } قال : مُكِرَ والله بالقوم في أموالهم وأولادهم ، يا ابن آدم ، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد [ بن عُبَيْد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن محمد ، عن مرة الهمداني ، حدثنا عبد الله ]{[20570]} بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب ، ولا يعطي الدِّين إلا لمن أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم{[20571]} عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : غشمه وظلمه - ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل{[20572]} منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " {[20573]} .


[20569]:- في أ : "وقال".
[20570]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20571]:- في ف : "يؤمن".
[20572]:- في ف : "منه ليتقبل" وفي أ : "فيتقبل".
[20573]:- المسند (1/387).

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ} (56)

المسارعة : التعجيل ، وهي هنا مستعارة لتوخي المرغوب والحرص على تحصيله . وفي حديث عائشة أنها قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم « ما أرى ربك إلا يسارع في هواك » أي يعطيك ما تحبه لأن الراغب في إرضاء شخص يكون متسارعاً في إعطائه مرغوبه ، ويقال : فلان يجري في حظوظك . ومتعلق { نسارع } محذوف تقديره : نسارع لهم به ، أي بما نمدهم به من مال وبنين . وحذف لدلالة { نمدهم به } عليه .

وظرفية ( في ) مجازية . جعلت { الخيرات } بمنزلة الطريق يقع فيه المسارعة بالمشي فتكون ( في ) قرينة مكنية . وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { يا أيها الرسول لا يُحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] وقوله : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم } [ المائدة : 52 ] كلاهما في سورة العقود ، وقوله : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } في سورة الأنبياء ( 90 ) .

والخيرات : جمع خير بالألف والتاء ، وهو من الجموع النادرة مثل سرادقات . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وأولئك لهم الخيرات } في سورة براءة ( 88 ) ، وتقدم في سورة الأنبياء ( 73 90 ) .

و ( بل ) إضراب عن المظنون لا على الظن كما هو ظاهر بالقرينة ، أي لسنا نسارع لهم بالخيرات كما ظنوا بل لا يشعرون بحكمة ذلك الإمداد وأنها لاستدراجهم وفضحهم بإقامة الحجة عليهم .