تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

قال الله : { أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } أي : هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني [ يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بالرسول الأول ثم بالثاني ]{[22346]} ؛ ولهذا قال : { بِمَا صَبَرُوا } أي : على اتباع الحق ؛ فإنَّ تجشُّم مثل هذا شديد على النفوس . وقد ورد في الصحيحين من حديث عامر الشعبي ، عن أبي بُرْدَةَ ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يُؤتَونَ أجْرهم مَرّتَين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورَجُل كانت له أمَة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوَّجها " {[22347]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق السَّيلَحيني ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن سليمان{[22348]} بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : إني لتحتَ راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، فقال قولا حسنًا جميلا وقال فيما قال : " مَنْ أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين ، وله ما لنا وعليه ما علينا ، [ ومَنْ أسلم من المشركين ، فله أجره ، وله ما لنا وعليه ما علينا ] " {[22349]}-{[22350]} .

وقوله { وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : لا يقابلون السيئ{[22351]} بمثله ، ولكن يعفون ويصفحون . { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي : ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خَلْق الله في النفقات الواجبة لأهلهم وأقاربهم ، والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات ، وصدقات النفل والقربات .


[22346]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[22347]:- صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
[22348]:- في ، أ : "سليم".
[22349]:- زيادة من ف ، أ ، ومسند أحمد.
[22350]:- المسند (5/259).
[22351]:- في ت ، ف ، أ : "يقابلون على السيئ".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

التعبير عنهم باسم الإشارة هنا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .

عَدَّ الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال :

إحداها : أخروية ، وهي { يؤتون أجرهم مرتين } أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم ، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن ، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيهاً للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد .

وفائدة هذا المجاز إظهار العناية حتى كأن المثيب يعطي ثم يكرر عطاءه ففي { يؤتون أجرهم مرتين } تمثيلة . وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران » رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني : خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة .

والثانية : الصبر ، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات ، وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش ، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي . ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله { ويدرؤون بالحسنة السيئة } وقوله { وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } .

والخصلة الثالثة : درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس ، وإسداء الخير إلى نفس أخرى ، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي { سلام عليكم } .

وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة ، وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر .

والخصلة الخامسة : الإعراض عن اللغو ، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه ، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة ، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولُبّه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك .

والخصلة السادسة : الكلام الفصل وهو قولهم { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } وهذا من أحسن ما يجاب به السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم .

ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تُنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرّفها بأن حيكت في نسج القرآن ، كما ألهم عمر قوله

{ عسى ربه إن طلقكن } [ التحريم : 5 ] الآية .