وقوله : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } أي : وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارةً لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا ، وإلا فإنما النصر من عند الله ، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم ، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ . } [ محمد : 4 - 6 ] . ولهذا قال هاهنا : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } أي : هو ذو العزة التي لا تُرام ، والحكمة في قَدره والإحكام .
الضمير في { جعله الله } عائد على الإنزال والإمداد ، و «البشرى » مصدر واللام في { ولتطمئن } متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله ، ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم وتروا حفاية الله بكم ، وإلا فالكثرة لا تغني شيئاً إلا أن ينصر الله ، قوله : { وما النصر } يريد للمؤمنين ، وكذلك هي الإدالة للكفار من عند الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما جعله الله}، يقول: وما جعل المدد من الملائكة {إلا بشرى لكم ولتطمئن}، يعني ولكي تسكن {قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله}، يقول: النصر ليس بقلة العدد ولا بكثرته، ولكن النصر من عند الله {العزيز}، يعني المنيع في ملكه، {الحكيم} في أمره حكم النصر للمؤمنين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم، يعني بشرى يبشركم بها، {ولِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} يقول: وكي تطمئنّ بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبُكم، فتسكن إليه، ولا تجزع من كثرة عدد عدوّكم، وقلة عددكم. {وَما النّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ}: يعني وما ظفركم إن ظفرتم بعدوّكم إلا بعون الله، لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة، يقول: فعلى الله فتوكلوا، وبه فاستعينوا، لا بالجموع وكثرة العدد، فإن نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف، فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوّكم، وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة أخرى، فاتقوا الله واصبروا على جهاده عدوّكم، فإن الله ناصركم عليهم...
وأما معنى قوله: {العَزِيزِ الحَكِيم} فإنه جلّ ثناؤه يعني: العزيز في انتقامه من أهل الكفر بأيدي أوليائه من أهل طاعته، الحكيم في تدبيره لكم أيها المؤمنون على أعدائكم من أهل الكفر، وغير ذلك من أموره. يقول: فأبشروا أيها المؤمنون بتدبيري لكم على أعدائكم، ونصري إياكم عليهم إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به وصبرتم لجهاد عدوّي وعدوّكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: وما النصر إلا من عند الله} ليعلم أن في النصر لطفا لا يوصل إليه بشيء من خلقه لأنه نفاه عنهم مع مدد من الملائكة ليعلم أن كل منصور على آخر إنما كان من الله جل وعلا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... قوله:"وما النصر إلا من عند الله" معناه أن الحاجة لازمة في المعونة وإن أمدهم بالملائكة فإنهم لا يستغنون عن معونته طرفة عين في تقوية قلوبهم وخذلان عدوهم بضعف قلوبهم إلى غير ذلك من الامور التي لا قوام لهم إلا بها ولا متكل لهم إلا عليها. فان قيل: كيف قال "وما النصر إلا من عند الله "وقد ينصر المؤمنون بعضهم بعضا وبعض المشركين بعضا؟ قلنا: لان نصر بعض المؤمنين بعضا من عبدالله لأنه بمعونته وحسن توفيقه، وأما نصر المشركين بعضهم لبعض، فلا يعتد به، لأنه بخذلان الله من حيث أن عاقبته إلى شر مآل من العقاب الدائم. وقوله "العزيز الحكيم" معناه ههنا العزيز في انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين، الحكيم في تدبيره للعالمين ليعلمهم بأن حربهم للمشركين يجري على اعزاز الدين، والحكمة في تدبير المكلفين ومعنى العزيز المنيع باقتداره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أجرى الله -سبحانه- سُنَّتَه مع أوليائه أنه إذا ضعفت نِيَّاتُهم، أو تناقصت إرادتهم أو أشْرفت قلوبهم على بعض فترة -أراهم من الألطاف، وفنون الكرامات ما يُقَوِّي به أسباب عِرْفانهم، وتتأكد به حقائق يقينهم. فعلى هذه السُّنَّة أنزل هذا الخطاب. ثم قطع قلوبهم وأسرارهم عن الأغيار بالكلية فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة، ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة، ويربط به على قلوب المجاهدين {العزيز} الذي لا يغالب في حكمه {الحكيم} الذي يعطي النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... معنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم وتروا حفاية الله بكم، وإلا فالكثرة لا تغني شيئاً إلا أن ينصر الله، قوله: {وما النصر} يريد للمؤمنين، وكذلك هي الإدالة للكفار من عند الله.
الكناية في قوله {وما جعله الله} عائدة على المصدر، كأنه قال: وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل {يمددكم} على الإمداد فكنى عنه... ثم قال: {ولتطمئن قلوبكم به} وفيه سؤال: وهو أن قوله {ولتطمئن} فعل وقوله {إلا بشرى} اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر، فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئنانا، أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم. والجواب عنه من وجهين الأول: في ذكر الإمداد مطلوبان، وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر، فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله {إلا بشرى} والثاني: حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة، وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيها على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة، فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: {ولتطمئن} ونظيره قوله {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها، فكذا ههنا الثاني؛ قال بعضهم في الجواب: الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم. ثم قال: {وما النصر إلا من عند الله} والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله {العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته، والحكيم إشارة إلى كمال علمه، فلا يخفي عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات، وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وما النصر إلا من عند الله} لا من العدة والعدد، وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد وإنما أمدهم ووعد لهم به إشارة لهم وربطا على قلوبهم، من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر وحثا على أن لا يبالوا بمن تأخر عنهم. {العزيز} الذي لا يغالب في أقضيته...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارةً لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا، وإلا فإنما النصر من عند الله، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم... هو ذو العزة التي لا تُرام، والحكمة في قَدره والإحكام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: وليس الإمداد بهم موجود للنصر، وكان قد قدم في أول السورة قوله: {والله يؤيد بنصره من يشاء} [آل عمران: 13] قال هنا قاصراً للأمر عليه: {وما جعله الله} أي الإمداد المذكور و ذكره لكم على ما له من الإحاطة بصفات الكمال التي لا يحتاج مراقبها إلى شيء أصلاً {إلا بشرى}. ولما كانت الهزيمة عليهم في هذه الكرة، وكان المقتول منهم أكثر قال: {لكم} لئلا يتوهم أن ذلك بشرى لضدهم، ولمثل هذا قدم القلوب فقال: {ولتطمئن} وعلم أن التقدير -لتكون الآية من الاحتباك: لتستبشر نفوسكم به وطمأنينة لكم لتطمئن {قلوبكم به} أي الإمداد، فحكم هنا بأنه بشرى مقيداً بلكم، فكانت العناية بضمير أشد حتى كأنه قيل: إلا و بشرى لكم وطمأنينتكم، فوجب تأخير ضميره عنهم، والمعنى أنهم كانوا أولاً خائفين، فلما وردت البشرى اطمأنوا بها رجاء أن يفعل بهم مثل ما فعل في بدر، فلما اطمأنوا بها وقع النصر كما وقع به الوعد ثم لما اطمأنت قلوبهم إلى شيء ألزّ قوتها لأنه قد سبق لها نصر وسرور بضرب وطعن في بدر وغيرها فلمحت نحو شيء من ذلك؛ حصلت الهزيمة ليصيروا إلى حق اليقين بأنه لا حول لهم ولا قوة، ولذلك قال تعالى: {وما النصر} أي في ذلك غيره {إلا من عند الله} أي المستجمع لصفات الكمال، لا بمدد ولا غيره فلا تجدوا في أنفسكم من رجوع من رجع ولا تأخر من تأخر ولا هزيمة من انهزم. ولما قدم أمر بدر هنا وأول السورة، وتحقق بذلك ما له من العزة والحكمة قال: {العزيز} الذي لا يغالب، فلا يحتاج إلى قتال أحد ولا يحتاج في نصره- إن قاتل -إلى معونة أحد {الحكيم} الذي يضع الأشياء في أتقن محالها من غير تأكيد، أي الذي نصركم قبل هذه الغزوة وفي أول النهار فيها، ليس لكم ولا لغيركم ناصر غيره، فمتى التفت أحد إلى سواه وكله إليه فخذل، فاحذروه لتطيعوه طاعة أولي الإحسان في كل أوان...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَا جَعَلَهُ الله} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز القول مَسوقٌ من جنابه تعالى لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وأن حقيقةَ النصرِ مختصٌّ به عز وجل ليثق به المؤمنون ولا يقنَطوا منه عند فُقدان أسبابِه وأماراتِه، معطوفٌ على فعل مقدرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيه النظامُ فإن الإخبارَ بوقوع النصرِ على الإطلاق وتذكيرَ وقتِه وحكايةَ الوعدِ بوقوعه على وجه مخصوصٍ هو الإمدادُ بالملائكة مرةً بعد أخرى، وتعيينُ وقتِه فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاءً قطعياً لكن لم يصرَّحْ به تعويلاً على تعاضُد الدلائلِ وتآخُذ الأماراتِ والمخايل وإيذاناً بكمال الغِنى عنه بل احتراز عن شائبة التكريرِ أو عن إيهام احتمالِ الخُلفِ في الوعد المحتومِ كأنه قيل: عَقيبَ قولِه تعالى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ منَ الملائكة مُسَوّمِينَ} [آل عمران، الآية: 152] فأمدَّكم بهم وما جعله الله الخ.
والجَعلُ متعدٍ إلى واحد هو الضميرُ العائد إلى مصدر ذلك الفعلِ المقدر وأما عَوْدُه إلى المصدر المذكورِ أعني قولَه تعالى: {أَن يُمِدَّكُمْ} أو إلى المصدر المدلولِ عليه بقوله تعالى: {يُمْدِدْكُمْ} كما قيل فغيرُ حقيقٍ بجزالة التنزيلِ لأن الهيئةَ البسيطةَ متقدمةٌ على المركبة، فبيانُ العلةِ الغائبةِ لوجود الإمداد كما هو المرادُ بالنظم الكريم حقُّه أن يكون بعد بيانِ وجودِه في نفسه، ولا ريب في أن المصدرَيْنِ المذكورين غيرُ معتبَرَيْنِ من حيث الوجودُ والوقوعُ كمصدر الفعلِ المقدرِ حتى يتصدى لبيان أحكامِ وجودِهما بل الأولُ معتبرٌ من حيث الكفايةُ والثاني من حيث الوعدُ على أن الأولَ هو الإمدادُ بثلاثة آلافٍ.
وقوله تعالى: {إِلاَّ بشرى لَكُمْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العللِ، وتلوينُ الخطابِ لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البِشارة وتسكينِ القلوب بتوفيق الأسبابِ الظاهرةِ وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غنيٌ عنه بما له من التأييد الروحاني أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تُنْصَرون {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أي بالإمداد وتسكُنَ إليه كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك، فكلاهما عِلةٌ غائيةٌ للجعل، وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه من اتحاد الفاعلِ والزمانِ وكونِه مصدراً مَسوقاً للتعليل، وبقيَ الثاني على حاله لفُقدانها، وقيل: للإشارة أيضاً إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه في نفسه كما في قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل، الآية 8].
وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بأن الملائكةَ عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتالَ وإنما كان إمدادُهم بتقويةِ قلوبِ المباشرين بتكثير السَّواد ونحوِه كما هو رأيُ بعضِ السلفِ رضي الله عنه. وقيل: الجعلُ متعدٍ إلى اثنين وقولُه عز وجل: {إِلاَّ بشرى لَكُمْ} استثناءٌ من أعمّ المفاعيلِ أي وما جعله الله تعالى شيئاً من الأشياء إلا بشارةً لكم فاللام في قوله تعالى: {وَلِتَطْمَئِنَّ} متعلقةٌ بمحذوف تقديرُه ولتطمئن قلوبُكم به فُعِل ذلك.
{وَمَا النصر} أي حقيقةُ النصرِ على الإطلاق فيندرِجُ في حكمة النصرُ المعهودُ اندراجاً أولياً {إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي إلا كائنٌ من عنده تعالى من غير أن يكون فيه شِرْكةٌ من جهة الأسبابِ والعَدد، وإنما هي مظاهرُ له بطريق جَرَيانِ سنتِه تعالى أو وما النصرُ المعهودُ إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكةِ فإنهم بمعزلٍ من التأثير وإنما قصارى أمرِهم ما ذُكر من البِشارة وتقويةِ القلوب {العزيز} أي الذي لا يغالَب في حكمه وأقضيتِه، وإجراءُ هذا الوصفِ عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاصِ النصرِ به تعالى كما أن وصفَه بقوله: {الحكيم} أي الذي يفعل كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة للإيذان بعلة جعْلِ النصرِ بإنزال الملائكةِ فإن ذلك من مقتَضيات الحِكم البالغة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أقول: الظاهر أن يكون التقدير وما جعل الله ذلك القول الذي قاله لكم الرسول وهو: {ألن يكفيكم} الخ إلا بشرى يفرح بها روعكم وتنبسط به أسارير وجوهكم وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدوكم واستعدادهم. أي إن قول الرسول له هذا التأثير في تقوية القلوب وتثبيت النفوس. وإنما أرجعنا ضمير "جعله "إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا إلى وعد الله عز وجل لأن الآيتين السابقتين ليستا وعدا من الله بالإمداد بالملائكة وإنما هما إخبار عما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد أخبر تعالى في تينك الآيتين أن رسوله قال لأصحابه ذلك القول وبيّن في هذه الآية فائدة ذلك القول ومنفعته مع بيان الحقيقة، وهي أن النصر بيد الله العزيز أي القوى الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي يدبر الأمر على خير سنن، ويقيمه بأحسن سنن؛ فيهدي لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء؛ ويصرف عنهما من يشاء، فإن حصل الإمداد بالملائكة فعلا فما يكون إلا جزءا من أجزاء سبب النصر أو فردا من أفراده، ومنه إلقاء الرعب والخوف في قلوب الأعداء، ومنه سائر الأسباب المعروفة من الصبر والثبات وحسن التدبير ومعرفة المواقع وغير ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها عن العدو وعسكر في أحسن موضع وهو الشعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل وجعل الرماة من ورائهم، فلما اختل بعض هذه التدبيرات لم ينتصروا...
وبقي أن يُقال: ما الحكمة وما السبب في إمداد الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم، وحرمانهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب؟ والجواب عن ذلك يعلم من اختلاف حال المؤمنين في ذينك اليومين، فنذكره هنا مجملا مع بيان فلسفته الروحانية، وندع التفصيل فيه إلى تفسير الآيات هنا وفي سورة الأنفال. فإن ما هنا تفصيل لما في وقعة أحد من الحكم وما في سورة الأنفال تفصيل لما كان في وقعة بدر من ذلك. كان المؤمنون يوم بدر في قلة وذلة من الضعف والحاجة فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله تعالى وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [الأنفال: 15] فبذلوا كل قواهم وامتثلوا أمر ربهم، ولم يكن في نفوسهم استشراف إلى شيء ما غير نصر الله وإقامة دينه والذود عن نبيه لا في أول القتال ولا في أثنائه، فكانت أرواحهم بهذا الإيمان وهذا الصفاء قد علت وارتقت حتى استعدت لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوى بنوع ما من الاتصال بها. وأما يوم أحد فقد كان بعضهم في أول الأمر على مقربة من الافتتان بما كان من المنافقين، ولذلك همت طائفتان منهم أن تفشلا. ثم إنهم لما تثبتوا وباشروا القتال انتصروا وهزموا المشركين الذين هم أكثر من ثلثهم، فكان بعد ذلك أن خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول، وطمعوا في الغنيمة وفشلوا وتنازعوا في الأمر فضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى أهلية الاستمداد من أرواح الملائكة فلم يكن لهم منهم مدد، لأن الإمداد لا يكون إلا على حسب الاستعداد. هذا هو السبب لما حصل بحسب ما يظهر لنا.
وأما حكمته فهي تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله: "وليمحص الله" الخ وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات كما سيأتي في قوله: {قد خلت من قبلكم سنن} [آل عمران: 137] وبيان أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يكون مثبطا للهمم ولا داعية إلى الانقلاب على الأعقاب، وأنه ليس له من أمر العباد شيء، وأن كل ما يصيبهم من المصائب فهو نتيجة عملهم إذ هو عقوبة طبيعية لهم، وغير ذلك مما بينه الله تعالى في قوله: {أو لما أصابتكم مصيبة} [آل عمران: 165] الخ.
وقوله: {وما محمد إلا رسول} [آل عمران: 144] وغيرهما، فلا نتعجله قبل الكلام في تفسير الآيات الناطقة به، وما هي ببعيد.
ومن نكت البلاغة المؤدية لما ذكرنا من اختلاف الحالين في الواقعتين: أنه تعالى قال هنا: {ولتطمئن قلوبكم به} وقال في سورة الأنفال: {ولتطمئن به قلوبكم} [الأنفال: 10] والفرق بينهما أن المؤمنين لم يكن لهم يوم بدر ما تطمئن به قلوبهم غير وعد الله وبشارته لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان من دعائه يومئذ "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا" قال عمر راوي هذا الحديث: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك. وأنزل الله يومئذ {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم} [الأنفال: 9]. رواه أحمد ومسلم وغيرهما. فكان بهذا الوعد اطمئنان قلوبهم لا بسواه فلذلك قدم "به" على "قلوبكم" وأما في يوم أحد فلم تكن الحال كذلك كما علم مما تقدم آنفا، فلم تعد البشارة أن تكون مما يطمئن به القلب فقال: "ولتطمئن قلوبكم به" من غير قصر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار للتنويه بهذه العناية من الله بهم، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين... والاستثناء مفرّغ. و {بشرى} مفعول ثان ل (جعله) أي ما جعل الله الإمداد والوعد به إلاّ أنَّه بشرى، أي جعله بشرى، ولم يجعله غير ذلك. و (لكم) متعلّق ب (بشرى). وفائدة التصريح به مع ظهور أن البشرى إليهم هي الدلالة على تكرمة الله تعالى إيّاهم بأنْ بَشَّرهم بشرى لأجلهم كما في التصريح بذلك في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] والبشرى اسم لمصدر بَشَّر كالرُّجعى، والبشرى خبر بحصول ما فيه نفع ومسرّة للمخبر به، فإنّ الله لمَّا وعدهم بالنَّصر أيقنوا به فكان في تبيين سببه وهو الإمداد بالملائكة طَمْأنة لنفوسهم لأنّ النفوس تركن إلى الصّور المألوفة. والطمْأنة والطُّمأنِينة: السكون وعدم الاضطراب، واستعيرت هنا ليقين النَّفس بحصول الأمر تشبيهاً للعلم الثابت بثبات النفس أي عدم اضطرابها، وتقدّمت عند قوله تعالى: {ولكن ليطمئنّ قلبي} في سورة [البقرة: 260]... وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنَّهما أولى بالذكر في هذا المقام، لأنّ العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يُعطاه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
لقد يقول قائل: كيف تكون البشرى مع أن النتيجة لم تكن نصرا، والبشرى يكون فيها الفوز ولا فوز هنا، والله سبحانه وتعالى لا يتخلف قوله ولا وعده؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن تلك البشارة مقرونة بشرطها من جانبهم وهي أن يتقوا ويصبروا، وما صبروا أو على الأقل ما صبر الرماة منهم لأنهم ما ضبطوا أنفسهم، بل خالفوا نهى النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا هواهم فكان ما كان، وفوق ذلك فإن البشرى قد تحققت في أن الله تعالى ألقي في قلوب المشركين الرعب عندما تلاوموا فيما بينهم بعد أن أصابوا من المؤمنين قرحا، وقال قائلهم:"لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم" وما زالوا حتى أجمعوا الكرة على المؤمنين، ولكن الله تعالى أركسهم وخذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فرضوا من الغنيمة بالإياب.
{وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} هذا تقوية لمعنى البشرى، ورد على كل الأوهام التي ثارت، وفيها أمر لهم بالتفويض لربهم، وأنهم إن كانوا قد أصابتهم جراح لأخطاء ارتكبوها، ومخالفات للطاعة وقعوا فيها، فإن الله تعالى لم يتخل عنهم، ولا نصر إلا من عنده، لأن كل شيء بيده، و قد حرم المشركين من ثمرات ما فعلوا حتى عادوا من غير نصر نالوه، وإنه يعدكم النصر منه متى أخذتم بالأسباب، وتركتم عوامل الخذلان، وقد وصف ذاته الكريمة بأنه عزيز حكيم؛ لأن ذلك هو الذي يناسب المقام، فالله سبحانه عزيز غالب قهار لا يغلب، وهو حكيم؛ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد وعد بالنصر، فالنصر آت لا ريب فيه.