اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ لَكُمۡ وَلِتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦۗ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ} (126)

قوله : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى } الكناية في " جَعَلَهُ " عائدة على المصدر ، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون ، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله ، وهو استثناء مفرغ ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى ، وشروط نصبه موجودة ، وهي اتحاد الفاعل ، والزمان ، وكونه مصدراً سيق للعلة .

والثاني : أنه مفعول ثانٍ لِ " جَعَل " على أنها تصييرية .

والثالث : أنه بدل من الهاء في " جَعَلَهُ " قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد .

والبشرى : مصدر على " فُعْلَى " كالرُّجْعَى .

وقيل : اسم من الإبشار ، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات } [ البقرة : 25 ] .

قوله : { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيه وجهان :

أحدهما : أنًّه معطوف على " بُشْرَى " هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله ، وإنما جُرَّ باللام ؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط ، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه ، وقد تقدم ، والتقدير : وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة .

والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : ولتطمئن قلوبكم ، فعلى ذلك ، أو كان كيت وكيت .

وقال أبو حيان : و " تطمئن " منصوب بإضمار " أن " بعد لام " كي " ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر .

ثم نقل عن ابن عطية أنه قال : " اللام في { وَلِتَطْمَئِنَّ } متعلقة بفعل مضمر يدل عليه " جَعَلَهُ " ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، ولتطمئن به قلوبكم .

قال أبو حيان : " وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف { وَلِتَطْمَئِنَّ } على { بُشْرَى } ، على الموضع ؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع ، ولا محرز هنا ؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود ، ومَنْ لم يشترط المحرز ، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم " .

قال شهاب الدين : " وقد جعل بعضهم الواو في { وَلِتَطْمَئِنَّ } زائدة ، وهو لائق بمذهب الأخفش ، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى ، أي : أن البشرى عِلَّة للجَعْل ، والطمأنينة علة للبُشْرَى ، فهي علة العلة " .

قال ابْنُ الخَطِيبِ : في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر :

فأحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : { إلاَّ بُشْرَى } .

الثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا يجنبون ، وهذا هو المقصود الأصلي ، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية ، فعطف الفعل على الاسم ، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة ، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة ، فقال : { وَلِتَطْمَئِنَّ } ونظيره قوله :

{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب ، أدخَل عليه حرف التعليل ، فكذا هاهنا .

قال أبو حيان : " ويناقش في قوله : عطف الفعل على الاسم ؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك كما ذكره " . انتهى .

قال شهَابُ الدِّينِ : " إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة ، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة ، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل " .

وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه : " هذا على تأويل : وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن ، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيكون التقدير : وما جعله الله إلا بشرى لكم ؛ لتطمئنَّ قلوبكم به " .

والضميران في قوله { وَمَا جَعَلَهُ } ، و " بِهِ " يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم ، وهو قوله : " يمددكم " .

وقيل : يعودان على النصر .

وقيل : على التسويم .

وقيل : على التنزيل .

وقيل : على المدد .

وقيل : على الوعد .

فصل

قال في هذه الآية : " لَكُمْ " وتركها في سورة الأنفال ؛ لأن تيك مختصر هذه ، فكان الإطناب - هنا- أوْلَى ؛ لأن القصة مكملة هنا ، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه ، وأخر - هنا - " به " وقدمه في سورة الأنفال ؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في " لَكُمْ " فأتبع الخطاب الخطاب ، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله : { الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وجاء بهما في جملة مستأنفة في سورة الأنفال ، في قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم ، أي : لا يغالب ، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب ، فالنصر من عنده ، فاستعينوا به ، وتوكلوا عليه ؛ لأن العز والحُكْم له .