وقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ]{[6663]} } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يَحْضُره الموت ، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تَضر بورثته ، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ، ويوفقه ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيْعَةَ .
وهكذا قال مجاهد وغير واحد ، وثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سَعْد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " . قال : فالشَّطْر ؟ قال : " لا " . قال : فالثلث ؟ قال : " الثلث ، والثلث كثير " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك إن تَذر وَرَثَتَك أغنياء خَيْر من أن تَذَرَهم عَالةً يتكَفَّفُون الناس " {[6664]} .
وفي الصحيح أن ابن عباس قال : لو أن الناس غَضّوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الثلث ، والثلث كثير " {[6665]} .
قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استُحب للميت أن يَسْتَوفي الثلث في وصيته{[6666]} وإن كانوا فقراء استُحب أن يَنْقُص الثلث .
وقيل : المراد بقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } [ أي ]{[6667]} في مباشرة أموال اليتامى { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا }
حكاه ابن جرير من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس : وهو قول حسن ، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل مال اليتامى ظلما ، أي : كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك ، فعامل الناس في ذرياتهم{[6668]} إذا وليتهم .
وقوله { وليخش } جزم بلام الأمر ، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه ، قياساً على حروف الجر ، إلا في ضرورة شعر ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ . . . إذا مَا خِفْتَ مِنْ أمْرٍ تَبَالاً{[3861]}
وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري : بكسر لامات الأمر في هذه الآية ، وقد تقدم الكلام على لفظ { ذرية } في سورة آل عمران ، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه ، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى . والتخويف بالعاقبة في الدنيا ، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة : «ضُعفاء » بالمد وضم الضاد ، وروي عن ابن محيصن «ضُعُفاُ » بضم الضاد والعين وتنوين الفاء ، وأمال حمزة { ضعافاً } وأمال - { خافوا } ، والداعي إلى إمالة { خافوا } الكسرة التي في الماضي في قولك : خفت ليدل عليها و { خافوا } جواب { لو } تقديره : لو تركوا لخافوا ويجوز حذف اللام في جواب - لو - تقول - لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، واختلف مَن المراد بهذه الآية ؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد : المراد من حضر ميتاً حين يوصي فيقول له : قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك ، فكأن الآية تقول لهم : كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته ، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس ذلك ، وهو أن يقول للمحتضر : أمسك على ورثتك وأبق لولدك ، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى ، وكل من يستحق أن يوصي له ، فقيل لهم : كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك فسددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضرهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، وللآخر القول الثاني ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعى إنما هو الضعف ، فيجب أن يمال معه ، وقال ابن عباس أيضاً : المراد بالآية ولاة الأيتام ، فالمعنى : أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم ، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك ، وقالت فرقة : بل المراد جميع الناس ، فالمعنى : أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم ، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده ، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال{[3862]} : كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوماً في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان ، فقلت له : يا أبا بسر{[3863]} ، ودي أن لا يكون لي ولد ، فقال لي : ما عليك ، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره ، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ، ثم تلا هذه الآية ، «والسديد » معناه : المصيب للحق ، ومنه قول الشاعر :
أعلمه الرماية كل يوم . . . فلما اشتد ساعده رماني{[3864]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.