تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا} (10)

أي : ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء ، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ، أم أراد بهم ربهم رشدا ؟ وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل ، والخير أضافوه إلى الله عز وجل . وقد ورد في الصحيح : " والشر ليس إليك " . وقد كانت الكواكب يُرمَى بها قبل ذلك ، ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان ، كما في حديث ابن عباس{[29371]} بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رمي بنجم فاستنار ، فقال : " ما كنتم تقولون في هذا ؟ فقلنا : كنا نقول : يولد عظيم ، يموت عظيم ، فقال : " ليس كذلك ، ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء " ، وذكر تمام الحديث ، وقد أوردناه في سورة " سبأ " بتمامه{[29372]} وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك ، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة ، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء ، فآمن من آمن منهم ، وتمرد في طغيانه من بقي ، كما تقدم حديث ابن عباس في ذلك ، عند قوله في سورة " الأحقاف " : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } الآية 29 . ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها ، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك ، وظنوا أن ذلك لخراب العالم - كما قال السدي : لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر ، فكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا ، يستمعون ما يحدث في السماء من أمر . فلما بعث الله محمدًا نبيا ، رُجموا ليلة من الليالي ، ففزع لذلك أهل الطائف ، فقالوا : هلك أهل السماء ، لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب . فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويُسَيِّبون مواشيهم ، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو بن عمير : ويحكم يا معشر أهل الطائف . أمسكوا عن أموالكم ، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء ، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة - يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم - وإن أنتم لم تروها فقد هلك أهل السماء . فنظروا فرأوها ، فكفوا عن أموالهم . وفزعت الشياطين في تلك الليلة ، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم ، فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها . فأتوه فَشَم فقال : صاحبكم بمكة . فبعث سبعة نفر من جن نصيبين ، فقدموا مكة فوجدوا رسول الله{[29373]} صلى الله عليه وسلم قائما يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن ، فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ، ثم أسلموا . فأنزل الله تعالى أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من( كتاب السيرة ) المطول ، والله أعلم ، ولله الحمد والمنة .


[29371]:- (3) في م : "كما في حديث العباس".
[29372]:- (1) عند تفسير الآية : 23.
[29373]:- (2) في م : "نبي الله".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا} (10)

وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحراسة السماء أم أراد بهم ربهم رشدا خيرا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا} (10)

قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى : وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض ، أي الناس ، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك . هذا توجيه القراءة بفتح همزة { أنا } ومحاولة غير هذا تكلف .

وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم : { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } [ الجن : 9 ] الخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يُخْبِرُهُمْ به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئاً من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحَى به إليه والذي يحمله إليه .

فحاصل المعنى : إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء .

وهذا تمهيد لما سيقولونه من قوله : { وإنا منا الصالحون } [ الجن : 11 ] ثم قولهم : { وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } [ الجن : 12 ] ثم قولهم : { وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به } إلى قوله : { فكانوا لجهنم حَطباً } [ الجن : 13 15 ] .

ومفعول { ندري } هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله : { أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } وهو الذي علَّق فعل { ندري } عن العمل ، والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولاً يستخلص من الاستفهام تقديره : لا ندري جواب هذا الاستفهام ، وذلك تقديرُ معنًى لا تقديرُ إعراب . هذا هو تفسير الآية على المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } [ الأحقاف : 9 ] .

وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب ، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به } [ الجن : 1 ، 2 ] وقولهم : { فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } [ الجن : 9 ] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيراً بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع .

وتكرير ( إنّ ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضاً لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء .

والرشَد : إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير ، فلهذا الاعتبار جعل مقابلاً للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله : { أم أراد بهم ربهم رشداً ، } جرياً على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه .