ثم قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك : أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها ؟ والمراد : العدول منهم ، الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته ، كما أخبر بذلك مَنْ آمن منهم كعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، عَمَّنْ أدركه منهم ومَنْ شاكلهم . وقال الله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] .
{ أو لم يكن لهم آية } على صحة القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . { أن يعلمه علماء بني إسرائيل } أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم وهو تقرير لكونه دليلا . وقرأ ابن عامر تكن بالتاء و { آية } بالرفع على أنها الأسم والخبر { لهم } { وأن يعلمه } بدل أو الفاعل و{ أن يعلمه } بدل { وهم } حال ، أو أن الاسم ضمير القصة و{ آية } خبر { أن يعلمه } والجملة خبر تكن .
ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره كون علماء بني إسرائيل يعلمونه كعبد الله بن سلام ونحوه قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال ابن عباس أيضاً فيما حكى عنه الثعلبي أن أهل مكة بعثوا إلى الأحبار بيثرب يسألونهم عن النبي عليه السلام فقالوا هذا زمانه ووصفوا نعته ثم خلطوا في أمر محمد عليه السلام فنزلت الآية في ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا كون الآية مكية ، وقال مقاتل هذه الآية مدنية ، فمن قال إنها مكية ذهب إلى أن علماء بني إسرائيل ذكروا في التوراة صفة النبي الأمي فهذه الإشارة إلى ذلك وكلهم قرأ { يكن } بالياء { آيةً } نصباً غير ابن عامر فإنه قرأ «تكن » بالتاء من فوق «آيةٌ » رفعاً وهي قراءة عاصم الجحدري{[8971]} ، وقرأ جمهور الناس «أن يعلمه » بالياء من تحت ، وقرأ الجحدري «تعلمه » بالتاء من فوق .
وقرأ جمهور الناس «أو لم يكن » بالياء «لهم آيةً » بالنصب ، وقرأ «أو ليس لم يكن آية » ابن مسعود ، والأعمش ، وفي مصحف أبي «أليس » بغير واو ، وقرأت فرقة «تكن » بالتاء من فوق «آيةٌ » رفعاً ، وقرأ بعض من قرأ بالياء { آيةً } بالنصب وسائرهم بالرفع ، وقد مضى ذكرها في السبع وذكر الطبري أن الضمير في قوله { وإنه لتنزيل } عائد على الذكر في قوله { ما يأتيهم من ذكر من ربهم } [ الأنبياء : 2 ] .
وقوله : { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } تنويه ثالث بالقرآن وحجة على التنويه الثاني به الذي هو شهادة كتب الأنبياء له بالصدق ، بأن علماء بني إسرائيل يعلمون ما في القرآن مما يختص بعلمهم ، فباعتبار كون هذه الجملة تنويهاً آخر بالقرآن عطفت على الجملة التي قبلها ولولا ذلك لكان مقتضى كونها حجة على صدق القرآن أن لا تعطف .
وفعل : { يعلمه } شامل للعلم بصفة القرآن ، أي تحقق صدق الصفات الموصوف بها من جاء به ، وشامل للعلم بما يتضمنه ما في كتبهم .
وضمير { أن يعلمه } عائد إلى القرآن على تقدير : أن يعلم ذكره . ويجوز أن يعود على الحكم المذكور في قوله : { وإنه لفي زبر الأولين } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أو لم يكن} محمد صلى الله عليه وسلم {لهم آية} يعني: لكفار مكة {أن يعلمه علماء بني إسرائيل} يعنى ابن سلام وأصحابه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أوَ لمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ" يقول تعالى ذكره: أو لم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك، دِلالةٌ على أنك رسول ربّ العالمين، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل. وقيل: عني بعلماء بني إسرائيل في هذا الموضع: عبد الله بن سلام ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل في عصره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الآية تكون على وجهين: أحدهما: ما ذكر أن أهل مكة، أرسلوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن رسول الله، فأخبروهم عنه أنه، يخرج في وقت كذا، وهذا وقت خروجه. والثاني: يقول: أولم يكفهم آية إسلام علماء بني إسرائيل وفقهائهم أنه رسول نحو ابن سلام وغيره؛ إذ كانوا لا يسلمون إلا عن علم وثبت أنه رسول، إذ كان في إسلامهم ذهاب مملكتهم ورئاستهم، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"أولم يكن لهم آية" أي دلالة في علم بني إسرائيل واضحة على صحة أمره. ومن حيث أن مجيئه على ما تقدمت البشارة به بجميع أوصافه لا يكون إلا من جهة علام الغيوب.
المراد منه ذكر الحجة الثانية على نبوته عليه السلام وصدقه، وتقريره أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا ونصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته ونعته، وقد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر، وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته، واعلم أنه قرئ {يكن} بالتذكير، وآية النصب على أنها خبره و (أن يعلمه) هو الاسم..
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وعلماء بني إسرائيل}: عبد الله بن سلام ونحوه، قاله ابن عباس ومجاهد، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه السلام، قال تعالى: {وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا} الآية. وقيل: علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم. وقيل: أنبياؤهم، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك: أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها؟ والمراد: العدول منهم، الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 196]
وينتقل من هذا الدليل الذاتي إلى دليل آخر خارجي: (وإنه لفي زبر الأولين. أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).. فقد وردت صفة الرسول الذي ينزل عليه القرآن، كما وردت أصول العقيدة التي جاء بها في كتب الأولين. ومن ثم كان علماء بني إسرائيل يتوقعون هذه الرسالة، وينتظرون هذا الرسول، ويحسون أن زمانه قد أظلهم؛ ويحدث بعضهم بعضا بهذا كما ورد على لسان سلمان الفارسي، ولسان عبد الله بن سلام -رضي الله عنهما- والأخبار في هذا ثابتة كذلك بيقين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تنويه ثالث بالقرآن وحجة على التنويه الثاني به الذي هو شهادة كتب الأنبياء له بالصدق، بأن علماء بني إسرائيل يعلمون ما في القرآن مما يختص بعلمهم..وفعل: {يعلمه} شامل للعلم بصفة القرآن، أي تحقق صدق الصفات الموصوف بها من جاء به، وشامل للعلم بما يتضمنه ما في كتبهم. وضمير {أن يعلمه} عائد إلى القرآن على تقدير: أن يعلم ذكره. ويجوز أن يعود على الحكم المذكور في قوله: {وإنه لفي زبر الأولين}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الذين كانوا يتحدثون عن النبي وعن كتابه ودينه، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، ما يدلّ على أنه يرتكز على أساس الحقيقة الدينية المتوارثة عند أهل الكتاب الذين يملكون الاحترام لدى المشركين في معرفتهم بالمسألة الدينية باعتبارها من اختصاصاتهم في نظر الجميع.