القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلََئِكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوّته ، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم { فِي نارِ جَهَنّمَ خالِدِينَ فيها } يقول : ماكثين ، لابثين فيها أبَدا لا يخرجون منها ، ولا يموتون فيها { أُولَئكَ هُمْ شَرّ البَرِيّةِ } يقول جلّ ثناؤه : هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، هم شرّ من بَرأَه الله وخلقه ، والعرب لا تهمز البرية ، وبترك الهمز فيها قَرَأتها قرّاء الأمصار ، غير شيء يُذكر عن نافع بن أبي نعيم ، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها ، وذهب بها إلى قول الله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرأَها } وأنها فعيلة من ذلك . وأما الذين لم يهمزوها ، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين : أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من المَلَك ، وهو مفعل من ألك أو لأك ، ومن يرى ، وترى ، ونرى ، وهو يفعل من رأيت . والآخر : أن يكونوا وجّهوها إلى أنها فعيلة من البَرَى وهو التراب . حُكي عن العرب سماعا : بفيك البَرَى ، يعني به : التراب .
بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معاً ثم خَصَّ أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإِبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها . أعقبه بوعيد الفريقين جمعاً بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة .
فالجملة استئناف ابتدائي ، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعاً لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة ، ولأن معظم الرد كان موجهاً إلى أحوالهم من قوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } إلى قوله : { دين القيمة } [ البينة : 4 ، 5 ] ، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك .
و { مِن } بيانية مثل التي في قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] .
وتأكيد الخبر ب { إنّ } للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة ، فإن الظرفية التي اقتضتها { في } تفيد أنهم غير خارجين منها ، وتأكد ذلك بقوله : { خالدين فيها } ، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأساً .
والإِخبارُ عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول : زيد في نعمة .
وجملة : { أولئك هم شر البريئة } كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر ، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي .
والبريئة : فعيلة من بَرأ الله الخلق ، أي صورهم .
ومعنى كونهم { شر البريئة } أنهم أشد الناس شراً ، ف { شر } هنا أفعل تفضيل أصله أشر مثل خير الذي هو بمعنى أخير ، فإضافة { شر } إلى { البريئة } على نية { مِن } التفضيلية .
وإنما كانوا كذلك لأنهم ضلوا بعد تلبسهم بأسباب الهدى ، فأما أهل الكتاب فلأن لديهم كتاباً فيه هدى ونور فعدلوا عنه ، وأما المشركون فلأنهم كانوا على الحنيفية فأدخلوا فيها عبادة الأصنام ثم إنهم أصرّوا على دينهم بعدما شاهدوا من دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به القرآن من الإِعجاز والإِنباء بما في كتب أهل الكتاب ، وذلك مما لم يشاركهم فيه غيرهم فقد اجتنوا لأنفسهم الشر من حيث كانوا أهلاً لنوال الخير فحسرتهم على أنفسهم يوم القيامة أشد من حسرة من عداهم فكان الفريقان شراً من الوثنيين والزنادقة في استحقاق العقاب لا فيما يرجى منهم من الاقتراب .
وأقحم اسم الإِشارة بين اسم { إنَّ } وخبرها للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإِشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإِشارة كما في قوله :
{ أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] . وتوسيط ضمير الفصل لإِفادة اختصاصهم بكونهم شر البريئة لا يشاركهم في ذلك غيرهم من فرق أهل الكفر لما علمت آنفاً . ولا يرد أن الشياطين أشد شراً منهم لما علمت أن اسم البريئة اعتبر إطلاقه على البشر .
و { البريئة } قرأه نافع وحده وابنُ ذكوان عن ابن عامر بهمز بعد الياء فعيلة من برأ اللَّهُ ، إذا خلق .
وقرأه بقية العشرة بياء تحتية مشددة دون همز على تسهيل الهمزة بعد الكسرة ياء وإدغام الياء الأولى في الياء الثانية تخفيفاً .
وإثبات الهمزة لغة أهل الحجاز ، والتخفيف لغة بقية العرب ، كما تركوا الهمز في الدَّرِيَّة والنبيّ . قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول : تنبأ مسيلمة بالهمز غير أنهم تركوا الهمز في النبيّ كما تركوه في : الدَّرِيَّة والبَرِيَّة إلا أهل مكة فإنهم يهمزونها ويخالفون العرب في ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.