مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمۡ شَرُّ ٱلۡبَرِيَّةِ} (6)

قوله تعالى : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريئة }

اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولا في قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } ثم ذكر ثانيا حال المؤمنين في قوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله } أعاد في آخر هذه السورة ذكر كلا الفريقين ، فبدأ أيضا بحال الكفار ، فقال : { إن الذين كفروا } واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين ( أحدهما ) الخلود في نار جهنم ( والثاني ) : أنهم شر الخلق ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر ؟ ( الجواب ) : من وجوه ( أحدها ) : أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يقدم حق الله سبحانه على حق نفسه ، ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال : «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال : «اللهم املأ بطونهم وقبورهم نارا » فكأنه عليه السلام قال : كانت الضربة ثم على وجه الصورة ، وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة ، ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال : كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حق نفسي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر . إذا عرفت ذلك فنقول : أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله بل في الرسول ، وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله ، فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولا في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب ، ثم ثانيا بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون ( وثانيها ) : أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم ، لأن المشركين رأوه صغيرا ونشأ فيما بينهم ، ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم ، وهذا أمر شاق ، أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد .

السؤال الثاني : لم ذكر : { كفروا } بلفظ الفعل : { والمشركين } باسم الفاعل ؟ ( والجواب ) : تنبيها على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل ، ومقرين بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة .

السؤال الثالث : أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرون القيامة ، أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين ، وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب ؟ ( والجواب ) : يقال : بئر جهنام إذا كان بعيد القعر ، فكأنه تعالى يقول تكبروا طلبا للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين ، ثم إن الفريقين وإن اشتراكا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب ، واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك ، وهذا القسم الثاني هو أقبح القسمين والإحسان أيضا على قسمين إحسان إلى من أحسن إليك ، وإحسان إلى من أساء إليك ، وهذا أحسن القسمين ، فكان إحسان الله إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءة ، ومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية ، فبالشتم تعزير وبالقذف حد وبالسرقة قط ، وبالزنا رجم ، وبالقتل قصاص ، بل شتم المماثل يوجب التعزير ، والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل ، فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات ، لا جرم استحقوا أعظم العقوبات ، وهو نار جهنم ، فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه البتة ، ثم كأنه قال قائل : هب أنه ليس هناك رجاء الفرار ، فهل هناك رجاء الإخراج ؟ فقال : لا بل يبقون خالدين فيها ، ثم كأنه قيل : فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم ؟ فقال : لا بل يذمونهم ، ويلعنونهم لأنهم شر البرية .

السؤال الرابع : ما السبب في أنه لم يقل ههنا خالدين فيها أبدا ، وقال في صفة أهل الثواب : { خالدين فيها أبدا } ؟ ( والجواب ) : من وجوه ( أحدها ) التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه ( وثانيها ) : أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل ، أما الثواب فأقسامه لا تتداخل ( وثالثها ) : روى حكاية عن الله أنه قال : يا داود حببني إلى خلقي ، قال : وكيف أفعل ذلك ؟ قال : اذكر لهم سعة رحمتي ، فكان هذا من هذا الباب .

السؤال الخامس : كيف القراءة في لفظ البرية ؟ ( الجواب ) : قرأ نافع البريئة بالهمز ، وقرأ الباقون بغير همز وهو من برأ الله الخلق ، والقياس فيها الهمز إلا أنه ترك همزه ، كالنبي والذرية والخابية ، والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال ، كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيه أجود ، وإن كان الهمز هو الأصل ، لأن ذلك صار كالشيء المرفوض المتروك . وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال : إنه من البرا الذي هو التراب .

السؤال السادس : ما الفائدة في قوله : { هم شر البرية } ؟ ( الجواب ) : أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم ، واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها ، شر من السراق ، لأنهم سرقوا من كتاب الله ، صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر من قطاع الطريق ، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق ، وشر من الجهال الأجلاف ، لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح .

واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد .

السؤال السابع : هذه الآية هل هي مجراة على عمومها ؟ ( الجواب ) : لا بل هي مخصوصة بصورتين ( إحداهما ) : أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد ( والثانية ) : قال بعضهم : لا يجوز أن يدخل في الآية من مضى من الكفار ، لأن فرعون كان شرا منهم ، فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر ، لأنهم أفضل الأمم .