يقول تعالى آمرًا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته ، والمبادرة إلى الخيرات : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } أي : يوم القيامة ، إذا أراد كونه فلا رادَّ له ، { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي : يتفرقون ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ؛ ولهذا قال : { مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فوجّه وجْهَك يا محمد نحوَ الوجه الذي وجّهك إليه ربك للدّينِ القَيّمِ لطاعة ربك ، والمِلةِ المستقيمةِ التي لا اعوجاج فيها عن الحقّ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يقول تعالى ذكره : من قبل مجيءِ يومٍ من أيام الله لا مردّ له لمجيئه ، لأن الله قد قضى بمجيئه فهو لا محالة جاء يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ يقول : يوم يجيء ذلك اليومُ يصدّع الناسُ ، يقول : يتفرّق الناس فرقتين من قولهم : صَدَعتُ الغنم صدعتين : إذا فرقتها فرقتين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَأقِمْ وَجْهَكَ للدّينِ القَيّمِ الإسلام مِنْ قَبْلِ أنْ يَأَتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ فريق في الجنة ، وفريق في السعير .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ يقول : يتفرّقون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله يَصّدّعُونَ قال : يتفرّقون إلى الجنة ، وإلى النار .
و { القيم } أصله قيوم اجتمعت الواو والياء وسبقت الياء وهي ساكنة فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى في الثانية ، ثم حذره تعالى من يوم القيامة تحذيراً يعم العالم وإياهم القصد ، و { لا مرد له } معناه ليس فيه رجوع لعمل ولا لرغبة ولا عنه مدخل ، ويحتمل أن يريد لا يرده راد حتى لا يقع وهذا ظاهر بحسب اللفظ ، و { يصدعون } معناه يتفرقون بعد جمعهم ، وهذا هو التصدع والمعنى يتفرقون إلى الجنة وإلى النار ، ثم قسم الفريقين بأحكام تلحقهم من أعمال في الدنيا .
تفرع على الإنذار والتحذير من عواقب الشرك تثبيتُ الرسول صلى الله عليه وسلم على شريعته ، ووعد بأن يأتيه النصر كقوله { واعبد ربك حتى يأتيَك اليقين } [ الحجر : 99 ] ، مع التعريض بالإرشاد إلى الخلاص من الشرك باتباع الدّين القيّم ، أي الحق . وهذا تأكيد للأمر بإقامة الوجه للدين في قوله { فأقم وجهك للدّين حنيفاً } [ الروم : 30 ] ، فإن ذلك لما فُرع على قوله { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [ الروم : 9 ] ، وما اتصل من تسلسل الحجج والمواعظ فُرع أيضاً نظيره هذا على قوله { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل } [ الروم : 42 ] وقد تقدم الكلام على نظير قوله { فأقم وجهك للدّين } وعلى معنى إقامة الوجه عند قوله { فأقم وجهك للدين حنيفاً } [ الروم : 30 ] .
و { القيّم } بوزن فَيْعل ، وهي زنة تدل على قوة ما تصَاغ منه ، أي : الشديد القيام ، والقيام هنا مجاز في الإصابة لأن الصواب يشبَّه بالقيام ، وضده يشبه بالعِوج ، وقد جمعهما قوله تعالى { ولم يجعل له عِوَجاً قيِّماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] فوصف الإسلام في الآية السابقة بالحنيف والفطرة ووصف هنا بالقيّم . وبين { أقم } و { القيم } محسن الجناس .
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر إعراضٌ عن صريح خطاب المشركين . والمقصود التعريض بأنهم حَرموا أنفسهم من اتباع هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة . يؤخذ هذا التعريض من أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالدوام على الإسلام ومن قوله عقب ذلك { يومئذ يصَّدَّعون } الآية .
والمردّ : مصدر ميمي من الردّ وهو الدفع ، و { له } يتعلق به ، و { من الله } متعلق ب { يأتي } و { من } ابتدائية . والمراد ( باليوم ) يوم عذاب في الدنيا وأنه إذا جاء لا يردّه عن المجازَيْن به رادّ لأنه آت من الله . والظاهر أن المراد به يوم بدر .
و { يصدعون } أصله يَتصَدَّعون فقلبت التاء صاداً لتقارب مخرجيهما لتأتي التخفيف بالإدغام . والتصدع : مطاوع الصدع ، وحقيقة الصدع : الكسر والشق ، ومنه تصدع القدح .
والمراد باليوم : يوم الحشر . والتصدع : التفرق والتمايز . ويكون ضمير الجمع عائداً إلى جميع الناس ، أي يومئذ يفترق المؤمنون من الكافرين على نحو قوله تعالى { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرّقون فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحْبَرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآمرة فأولئك في العذاب محضرون } [ الروم : 14 16 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.