وقوله : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } أي : يكاد ينفصل بعضها من بعض ، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم ، { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } يذكر تعالى عدله في خلقه ، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ، كما قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَكَادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَىَ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزّلَ اللّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : تَكادُ جهنم تَمَيّزُ يقول : تتفرّق وتتقطع مِنَ الغَيْظِ على أهلها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، يقول : تتفرّق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، تكاد يفارق بعضها بعضا وتنفطر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، يقول : تفرّق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، قال : التميز : التفرّق من الغيظ على أهل معاصي الله ، غضبا لله ، وانتقاما له .
وقوله : كُلّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سألَهُمْ ، يقول جلّ ثناؤه : كلما ألقي في جهنم جماعة سألهم خَزَنَتُها ، ألَمْ يأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، يقول : سأل الفوجَ خزنةُ جهنم ، فقالوا لهم : ألم يأتكم في الدنيا نذيرٌ ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه ؟ فأجابهم المساكين فقالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ينذرنا هذا ، فَكَذّبْناهُ وَقُلْنَا له : ما نَزّلَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ إن أنْتُمْ إلاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ . يقول : في ذهاب عن الحقّ بعيد .
و { الغيظ } أشد الغضب . وقوله : { تكاد تميز من الغيظ } خبر ثان عن ضمير { وهي } ، مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها ورطمها ما فيها والتهام من يُلقون إليها ، بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئاً مما غاظه إلاّ سلط عليه ما يستطيع من الإِضرار .
واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم : يكاد فلان يتميز غيظاً ويتقصف غَضَباً ، أي يكاد تتفرق أجزاؤه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية وقد وضحناها في تفسير قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة ( 5 ) .
ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى : { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ } في سورة الكهف ( 77 ) إذ مثل الجدار بشخص له إرادة .
و{ تميَّز } أصله تتميز ، أي تنفصل ، أي تتجزأ أجزاءً تخييلاً لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع ، وهذا كقولهم : غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء .
{ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير }
أُتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فظائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار .
فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يَتساءل السامع عن سبب وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم ، مع ما انضمّ إلى ذلك من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءوهم به .
و { كلما } مركب من ( كل ) اسم دال على الشمول ومن ( ما ) الظرفية المصدرية وهي حرف يؤوَّل مع الفعل الذي بعده بمصدره .
والتقدير : في كل وقت إلقاء فوج يسأل خزنتُها الفوجَ .
وباتصال ( كل ) بحرف ( ما ) المصدرية الظرفية اكتسبَ التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مُرتبة إحداهما على الأخرى .
وجيء بفعلي { أُلقي } و { سألهم } ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد { كلما } أن يكون بصيغة المضي لأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف .
والفوج : الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود ، وتقدم عند قوله تعالى : { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } في سورة النمل ( 83 ) .
وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله : سألهم } الخ . لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
وخزنة النار : الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن : الذي يخزن شيئاً ، أي يحفظه في مكان حصين ، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل .
وجملة { ألم يأتكم نذير } بيان لجملة { سألهم } كقوله : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } [ طه : 120 ] .
والاستفهام في { ألم يأتكم نذير } للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة .
والنذير : المنذر ، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب :
والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة : { كلما أُلقي فيها فوج } الخ بمعنى التذييل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.