وقوله تعالى : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }
هذا تقريع من صالح ، عليه السلام ، لقومه ، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه ، وتمردهم على الله ، وإبائهم عن قبول الحق ، وإعراضهم عن الهدى إلى العَمى - قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر ، أقام هناك ثلاثًا ، ثم أمر براحلته فشُدّت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها{[11942]} ثم سار حتى وقف على القليب ، قليب بدر ، فجعل يقول : " يا أبا جهل بن هشام ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، ويا فلان بن فلان : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " . فقال له عمر : يا رسول الله ، ما تُكَلّم من أقوام قد جيفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون " .
وفي السيرة أنه ، عليه السلام{[11943]} قال لهم : " بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم " . {[11944]}
وهكذا صالح ، عليه السلام ، قال لقومه : { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : فلم تنتفعوا بذلك ، لأنكم لا تحبون{[11945]} الحق ولا تتبعون ناصحا ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }
وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته ، كان يذهب فيقيم في الحرم ، حرم مكة ، فالله أعلم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا زَمْعَة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حين حَجّ قال : " يا أبا بكر ، أيّ وادي هذا ؟ " قال : هذا وادي عُسْفَان . قال : " لقد مر به هود وصالح ، عليهما السلام ، على بَكَرات حُمْر خُطُمها الليف ، أزُرُهم العبَاء ، وأرديتهم النّمار ، يلبون يحجون البيت العتيق " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، لم يخرجه أحد منهم{[11946]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاّ تُحِبّونَ النّاصِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله خارجا عن أرضهم من بين أظهرهم لأن الله تعالى ذكره أوحى إليه : إني مهلكهم بعد ثلاثة . وقيل : إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها ، فأخبر الله جلّ ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم ، فقال : فتولّى عنهم صالح ، وقال لقومه ثمود : لقد أبلغتكم رسالة ربي ، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربي من أمره ونهيه ، ونصحت لكم في أدائي رسالة الله إليكم في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان ، وَلَكِنْ لا تُحِبّونَ النّاصحِينَ لكم في الله الناهين لكم عن اتباع أهوائكم الصادّين لكم عن شهوات أنفسكم .
{ فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين ، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر وقال : " إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " . أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم .
وأخبر الله عز وجل بفعل «صالح » في توليه عنهم وقت «عقرهم » الناقة وقولهم { ائتنا بما تعدنا } وذلك قبل نزول العذاب وكذلك روي أنه عليه السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم ، وأما لفظ الآية فيحتمل أن خاطبهم وهم موتى على جهة التفجع عليهم وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر ، قال الطبري : وقيل لم تهلك أمة ونبيها معها ، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ، ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في إهلاكهم . وقوله : { لا تحبون الناصحين } عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي ، إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة نفس الذي ينصح ، ولذلك تقول العرب أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك .
والفاء في قوله : { فتولى عنهم } عاطفة على جملة : { فعقروا الناقة } [ الأعراف : 77 ] والتّولي الانصراف عن فراق وغضب ، ويطلق مجازاً على عدم الاكتراث بالشّيء ، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنّه فارقَ ديار قومه حين علم أنّ العذاب نازل بهم ، فيكون التّعقيب لقوله : { فعقروا الناقة } [ الأعراف : 77 ] لأن ظاهر تعقيب التّوليَ عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرّجفة وأصبحوا جاثمين .
ويحتمل أن يكون مجازاً بقرينة الخطاب أيضاً ، أي فأعرض عن النّظر إلى القرية بعد اصابتها بالصّاعقة ، أو فأعرض عن الحَزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى : { لعلّك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] .
فعلى الوجه الأول يكون قوله : { يا قومِ لقد أبلغتكم } إلخ مستعملاً في التّوبيخ لهم والتّسجيل عليهم ، وعلى الوجه الثّاني يكون مستعملاً في التحَسر أو في التّبرىء منهم ، فيكون النّداء تَحسر فلا يقتضي كونَ أصحاب الاسم المنادَى ممّن يعقل النّداء حينئذ ، مثل ما تنادَى الحسرة في : يا حسرة .
وقوله : { لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم } تفسيره مثل تفسير قوله في قصّة نوح عليه السّلام : { أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم } [ الأعراف : 62 ] واللاّم في ( لقد ) لام القسم ، وتقدّم نظيره عند قوله : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] .
والاستدراك ب ( لكن ) ناشىء عن قوله : { لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحتُ لكم } لأنّه مستعمل في التّبرُّؤ من التقصير في معالجة كفرهم ، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه ، فذلك التّبرُّؤُ يؤذن بدفع توهّم تقصير في الإبلاغ والنّصيحة لإنعدام ظهور فائدة الابلاغ والنّصيحة ، فاستدرك بقوله : { ولكن لا تحبّون النّاصحين } ، أي تكرهون النّاصحين فلا تطيعونهم في نصحهم ، لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النّصيحة .
واستعمال المضارع في قوله : { لا تحبّون } إن كان في حال سماعهم قولَه فهو للدّلالة على التّجديد والتّكرير ، أي لم يزل هذا دأبَكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقيّه للإقلاع عمّا هم فيه ، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله خارجا عن أرضهم من بين أظهرهم لأن الله تعالى ذكره أوحى إليه: إني مهلكهم بعد ثلاثة. وقيل: إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها، فأخبر الله جلّ ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم، فقال: فتولّى عنهم صالح، وقال لقومه ثمود: لقد أبلغتكم رسالة ربي، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربي من أمره ونهيه، ونصحت لكم في أدائي رسالة الله إليكم في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان، "وَلَكِنْ لا تُحِبّونَ النّاصحِينَ "لكم في الله الناهين لكم عن اتباع أهوائكم الصادّين لكم عن شهوات أنفسكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} والنصيحة ما ذكرنا أن كل من دل آخر على ما به نجاته، وسعى على دفع البلاء والهلاك عنه. فهو ناصح له. فعلى ذلك صالح وغيره من الرسل، قد دلّوا قومهم على ما به نجاتهم، وسعوا على دفع الهلاك عنهم. لكنهم لم يقبلوا النصيحة منهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" فتولى عنهم "والتولي: الذهاب عن الشيء وهو الإعراض عنه، وإنما تولى، لأنه أقبل عليهم بالدعاء إلى توحيد الله وطاعته، فلما خالفوا ونزل بهم العذاب تولى عنهم لليأس منهم.
وقوله "وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة بي "إنما جاز أن يناديهم مع كونهم جاثمين موتى لما في تذكر ما أصارهم إلى تلك الحال العظيمة التي صاروا بها نكالا لكل من اعتبر بها وفكر فيها من الحكمة والموعظة الحسنة.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} خوفتكم عقاب الله، وهذا كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى بدر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
" {فتولى عَنْهُمْ} الظاهر أنه كان مشاهداً لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعدما أبصرهم جاثمين، تولي مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم ويقول: يا قوم لقد بذلت فيكم وسعي، ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم، ولكنكم {لاَ تُحِبُّونَ الناصحين} ويجوز أن يتولى عنهم تولي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في إهلاكهم...
{لا تحبون الناصحين} عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي، إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة نفس الذي ينصح...
{ولكن لا تحبون الناصحين} والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة. وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة. فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه. كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر. فقيل: تتكلم مع هؤلاء الجيف، فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، لكنهم لا يقدرون على الجواب».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: ففعلت معكم ما هو مقتض لأن تحبوني لأجله، عطف عليه قوله: {ولكن} لم تحبوني، هكذا كان الأصل ولكنه عبر بما يفهم أن هذا كان دأبهم وخلقاً لهم مع كل ناصح فقال: {لا تحبون} أي حاكياً لحالهم الماضية {الناصحين} أي كل من فعل فعلي من النصح التام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويدعهم السياق على هيئتهم.. (جاثمين).. ليرسم لنا مشهد صالح الذي كذبوه وتحدوه: (فتولى عنهم، وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين) إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح؛ والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب وهكذا تطوي صفحة أخرى من صحائف المكذبين. ويحق النذير بعد التذكير على المستهزئين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتّولي: الانصراف عن فراق وغضب، ويطلق مجازاً على عدم الاكتراث بالشّيء، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنّه فارقَ ديار قومه حين علم أنّ العذاب نازل بهم، فيكون التّعقيب لقوله: {فعقروا الناقة} [الأعراف: 77] لأن ظاهر تعقيب التّوليَ عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرّجفة وأصبحوا جاثمين، أي فأعرض عن النّظر إلى القرية بعد اصابتها بالصّاعقة، أو فأعرض عن الحَزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى: {لعلّك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3]. فعلى الوجه الأول يكون قوله: {يا قومِ لقد أبلغتكم} إلخ، مستعملاً في التّوبيخ لهم والتّسجيل عليهم، وعلى الوجه الثّاني يكون مستعملاً في التحَسر أو في التّبري منهم، فيكون النّداء تَحسر فلا يقتضي كونَ أصحاب الاسم المنادَى ممّن يعقل النّداء حينئذ، مثل ما تنادَى الحسرة في: يا حسرة... واللاّم في (لقد) لام القسم، وتقدّم نظيره عند قوله: {لقد أرسلنا نوحاً} [الأعراف: 59]. والاستدراك ب (لكن) ناشئ عن قوله: {لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحتُ لكم} لأنّه مستعمل في التّبرُّؤ من التقصير في معالجة كفرهم، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه، فذلك التّبرُّؤُ يؤذن بدفع توهّم تقصير في الإبلاغ والنّصيحة لانعدام ظهور فائدة الابلاغ والنّصيحة، فاستدرك بقوله: {ولكن لا تحبّون النّاصحين}، أي تكرهون النّاصحين فلا تطيعونهم في نصحهم، لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النّصيحة...