ثم قال تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } يقول تعالى : من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر ، كما قال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] .
{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ }{[60]} وهذا من باب عطف الخاص على العام ، فإنهما دخلا في الملائكة ، ثم{[61]} عموم الرسل ، ثم خصصا بالذكر ؛ لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه ، وقرن معه ميكائيل في اللفظ ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم ، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا ؛ لأنه - أيضًا - ينزل على الأنبياء بعض الأحيان ، كما قُرن{[62]} برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر ، ولكن جبريل أكثر ، وهي وظيفته ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، هذاك بالهدى وهذا بالرزق ، كما أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم{[63]} القيامة ؛ ولهذا جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول{[64]} " اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل{[65]} ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " {[66]} . وقد تقدم ما حكاه البخاري ، ورواه ابن جرير{[67]} عن عكرمة أنه قال : جبر ، وميك ، وإسراف : عُبَيد . وإيل : الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير{[68]} مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : إنما قوله : " جبريل " كقوله : " عبد الله " و " عبد الرحمن " . وقيل{[69]} جبر : عبد . وإيل : الله .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، قال : أتدرون{[70]} ما اسم جبرائيل{[71]} من أسمائكم ؟ قلنا : لا . قال : اسمه عبد الله ، قال : فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟ قلنا : لا . قال : اسمه عبيد الله{[72]} . وكل اسم مرجعه إلى " يل " {[73]} فهو إلى الله .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك . ثم قال : حدثني أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَارِي ، حدثني عبد العزيز بن عمير قال : اسم جبريل في الملائكة خادم الله . قال : فحدثت{[74]} به أبا سليمان الداراني ، فانتفض وقال : لهذا الحديث أحبّ إليَّ من كل شيء [ وكتبه ]{[75]} في دفتر كان بين يديه .
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات ، تذكر في كتب اللغة والقراءات ، ولم نطوّل كتابنا هذا بسَرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه ، أو يرجع الحكم في ذلك إليه ، وبالله الثقة ، وهو المستعان .
وقوله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل : فإنه عدو للكافرين . قال : { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } كما قال الشاعر :
لا أرى الموتَ يسبق{[76]} الموتَ شيء*** نَغَّص{[77]} الموتُ ذا الغنى والفقيرا
ليتَ الغرابَ غداة ينعَبُ{[78]} دائبا*** كان الغرابُ مقطَّع الأوداج{[79]}
وإنما أظهر الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ، وإعلامهم أن من عادى أولياء الله فقد عادى الله ، ومن عادى الله فإن الله عدو له ، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة ، كما تقدم الحديث : " من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب " . وفي الحديث الآخر : " إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " . وفي الحديث الصحيح : " وَمَن كنتُ خَصْمَه خَصَمْتُه " .
{ مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنّ اللّهَ عَدُوّ لّلْكَافِرِينَ }
وهذا خبر من الله جل ثناؤه : من كان عدوا لله من عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله ، وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل وعادى جميع ملائكته ورسله لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته ، ومن عادى لله وليّا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة ، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته لأن العدوّ لله عدوّ لأوليائه ، والعدوّ لأولياء الله عدوّ له . فكذلك قال لليهود الذين قالوا : إن جبريل عدوّنا من الملائكة ، وميكائيل ولينا منهم : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِلّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيل وَمِيكَالَ فَانّ اللّهَ عَدُوّ للكافِرِينَ } من أجل أن عدوّ جبريل عدوّ كل وليّ لله . فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوّا لجبريل فهو لكل من ذكره من ملائكته ورسله وميكال عدوّ ، وكذلك عدوّ بعض رسل الله عدوّ لله ولكل وليّ . وقد :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله يعني العتكي عن رجل من قريش ، قال : سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهود فقال : «أسألُكُمْ بِكِتابِكُمْ الّذِي تَقْرَءونَ هَلْ تَجِدُونَ بِهِ قَدْ بَشّرَ بي عِيسَى ابْنُ مَرَيْمَ أنْ يأتِيكُمْ رَسُولٌ اسمُهُ أحْمَدُ ؟ » فقالوا : اللهمّ وجدناك في كتابنا ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال وتهريق الدماء فأنزل الله : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِلّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ } الآية .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : إن يهوديّا لقي عمر فقال له : إن جبريل الذي يذكره صاحبك هو عدوّ لنا . فقال له عمر : مَنْ كَانَ عَدُوّا لِلّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَانّ اللّهَ عَدُوّ للكافِرِين قال : فنزلت على لسان عمر . وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإخبارا منه لهم أن من كان عدوّا لمحمد فالله له عدوّ ، وأن عدوّ محمد من الناس كلهم لمن الكافرين بالله الجاحدين آياته .
فإن قال قائل : أَوَ ليس جبريل وميكائيل من الملائكة ؟ قيل : بلى . فإن قال : فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما ، وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة ؟ قيل : معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت : جبريل عدوّنا وميكائيل وليّنا ، وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم من أجل أن جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم ، أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوّا ، فإن الله له عدوّ ، وأنه من الكافرين . فنصّ عليه باسمه ، وعلى ميكائيل باسمه ، لئلا يقول منهم قائل : إنما قال الله : { من كان عدوّا لله وملائكته ورسله ، } ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصّا وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه . وكذلك قوله : وَرُسُلِهِ فلست يا محمد داخلاً فيهم . فنصّ الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم ، ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين . وأما إظهار اسم الله في قوله : { فانّ اللّهَ عَدُوّ للْكَافِرِين } وتكريره فيه ، وقد ابتدأ أوّل الخبر بذكره فقال : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِلّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ } ، فلئلا يلتبس ، لو ظهر ذلك بكناية ، فقيل : فإنه عدوّ للكافرين ، على سامعه مَن المعنّي بالهاء التي في «فإنه » آلله أم رسل الله جل ثناؤه ، أم جبريل ، أم ميكائيل ؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت ، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعنيّ بذلك لاحتمال الكلام ما وصفت . وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر :
لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبا *** كانَ الغُرَابُ مُقَطّعَ الأوْدَاجِ
وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه . والأمر في ذلك بخلاف ما قال وذلك أن الغراب الثاني لو كان مكنيّ عنه لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم الغراب الأوّل ، إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه غير كناية اسم الغراب الأول وأن قبل قوله : فَانّ اللّهَ عَدُوّ للْكَافِرِينَ أسماء لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم إلا بتوقيف من حجة ، فلذلك اختلف أمراهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.