{ إلا الذين آمنوا . . . } وجروا على موجب تلك الصفات التي منحهم الله إياها ؛ أنشأهم عليها .
{ فلهم أجر غير ممنون } أي غير مقطوع عنهم . أو غير ممنون به عليهم جزاء إيمانهم ، واستمساكهم بالحق ، وقيامهم بما تقتضيه تلك الصفات . ولا تقبح صورهم يوم القيامة ؛ بل يزدادون بهجة وحسنا . والاستثناء متصل من ضمير " رددنا " العائد على الإنسان ، فإنه في معنى الجمع . أو لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى لهم أجر غير ممنون ؛ لصبرهم على ما ابتلوا به من الهرم المانع لهم عن النهوض لأداء وظائفهم من العبادة . والاستثناء منقطع بمعنى لكن ؛ لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره .
ثم استثنى فقال :{ إلا الذين آمنوا } فإنهم لا يردون إلى النار . ومن قال بالقول الأول قال : رددناه أسفل سافلين ، فزالت عقولهم وانقطعت أعمالهم ، فلا يكتب لهم حسنة إلا الذين آمنوا . { وعملوا الصالحات } فإنه يكتب لهم بعد الهرم والخرف ، مثل الذين كانوا يعملون في حال الشباب والصحة . قال ابن عباس : هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى عذرهم . فأخبر أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم . قال عكرمة : لم يضر هذا الشيخ كبره إذ ختم الله له بأحسن ما كان يعمل . وروى عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال : { إلا الذين قرؤوا القرآن } وقال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر . { فلهم أجر غير ممنون } غير مقطوع ، لأنه يكتب له كصالح ما كان يعمل . قال الضحاك : أجر بغير عمل .
قوله تعالى : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنه تكتب لهم حسناتهم ، وتمحى عنهم سيئاتهم ، قاله ابن عباس . قال : وهم الذين أدركهم الكبر ، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم . وروى الضحاك عنه قال : إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة ، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه ، أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه . وفي حديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : [ إذا سافر العبد أو مرض كتب اللّه له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ] . وقيل : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنه لا يخرف ولا يهرم{[16193]} ، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به . وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر . وروي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : [ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ] . وروي : إن العبد المؤمن إذا مات أمر اللّه ملكيه{[16194]} أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة ، ويكتب له ذلك .
" فلهم أجر غير ممنون " قال الضحاك : أجر بغير عمل . وقيل مقطوع .
{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } فيه قولان :
أحدهما : أن أحسن التقويم هو حسن الصورة وكمال العقل والشباب والقوة ، وأسفل سافلين الضعف والهرم والخرف فهو كقوله تعالى : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } [ يس : 68 ] وقوله : { جعل من بعد قوة ضعفا } [ الروم : 54 ] وقوله : { إلا الذين آمنوا } بعد هذا غير متصل بما قبله ، والاستثناء على هذا القول منقطع بمعنى لكن ؛ لأنه خارج عن معنى الكلام الأول .
والآخر : أن حسن التقويم الفطرة على الإيمان ، وأسفل سافلين الكفر أو تشويه الصورة في النار ، والاستثناء على هذا متصل ؛ لأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يردوا أسفل سافلين .
ولما حكم بهذا الرد على جميع النوع إشارة إلى كثرة المتصف به منهم ، وكان الصالح قليلاً جداً ، جعله محط الاستثناء فقال : { إلا الذين آمنوا } أي بالله ورسله فكانوا من ذوي البصائر والمعارف ، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم ، وحميناهم من أرذل العمر ، فكانوا كلما زدناهم سناً زدنا أنوار عقولهم ونقصنا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم ، وأحكمنا من مدارك أنوار الحق وإشراقاته منهم ، وأعظمنا من قوي أرواحهم .
ولما كان الإنسان قد يدعي الإيمان كاذباً قال : { وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم الإيمان { الصالحات } أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان ، محكمة بما آتيناهم من العلم غاية الإحكام ، متقنة غاية الإتقان ، فإنا حفظناهم - وقليل ما هم - بما كملناهم به وشرفناهم على جميع الحيوانات وسائر من سواهم فلم نمكن منهم الشهوات ولا غيرها ، وأقمناهم على ما اقتضاه منهاج العقل ، فتبعوا الرسل بسبب إبقائنا لهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم ، لم يدنس محياها بشهوة ولا حظ ولا هوى ، فسهل انقيادهم ، فأداهم ذلك إلى العدل والنصفة والإحسان ، وجميع مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ، ولم يزيغوا عن منهاج الرسل في قول ولا عمل ، فالآية كما ترى من الاحتباك : حذف أولاً بما أفهمته الآية عمل السيئات ، وثانياً الإبقاء على أصل الخلق في أحسن تقويم على الفطرة الأولى ، ليكون نظمها في الأصل { ثم رددناه أسفل سافلين } بعمل السيئات فله على ذلك عذاب مهين { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنا أبقيناهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم .
ولما كان السياق لمدح المؤمنين ، حسن أن يعد أعمالهم التي تفضل عليهم بها سبباً كما منّ عليهم به من الثواب فقال : { فلهم } أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى { أجر } أي عظيم جداً وهو مع ذلك { غير ممنون * } أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم لكونهم سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى ، وعزموا عزماً صادقاً أنهم لا ينقصون من أعمال البر ذرة ولو عاشوا مدى الدهر ، وذلك الأجر جزاء لأعمالهم فضلاً منه بالأصل والفرع حتى أنهم إذا عجزوا بالهرم كتب لهم أجر ما كانوا يعملون في حال الصحة ، ولمن تابع هواه في السفول عذاب عظيم لأنه رد أسفل سافلين .