{ فلا اقتحم العقبة } أي فلا اكتسب ذلك الإنسان بماله الكثير الأعمال العظيمة التي لها عند الله رفعة ومنزلة ؛ وهي فك رقبة أو إطعام يتيم أو مسكين ، بدل إنفاقها رياء وسمعة فيما لا يعتد به من الأعمال . أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم – ولا آمن بالله . والاقتحام في الأصل : الدخول في الشيء بسرعة وشدة من غير رؤية . يقال : قحم في الأمر قحوما – من باب نصر - ، رمى بنفسه فيه من غير
روية . والعقبة في الأصل : الطريق الوعر في الجبل ؛ استعيرت للأعمال المذكورة لصعوبتها على النفوس . واقتحامها : فعلها وتحصيلها والدخول فيها . وقيل : العقبة النار أو جبل فيها . واقتحامها : مجاوزتها بمجاهدة النفس في طاعة الله في الدنيا . أو هي الصراط على متن جهنم ؛ واقتحامها : المرور والجواز عليه بسرعة . أي فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكئود يوم القيامة .
أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد ، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن . والاقتحام : الرمي بالنفس في شيء من غير روية ، يقال منه : قحم في الأمر قحوما : أي رمى بنفسه فيه من غير روية . وقحم الفرس فارسه . تقحيما على وجهه : إذا رماه . وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية . والقُحمة بالضم المهلكة ، والسنة الشديدة . يقال : أصابت الأعراب القُحمة : إذا أصابهم قحط ، فدخلوا الريف . والقُحم : صعاب الطريق . وقال الفراء والزجاج : وذكر " لا " مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد " لا " مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع ، حتى يعيدوها في كلام آخر ، كقوله تعالى : " فلا صدق ولا صلى{[16078]} " [ القيامة : 31 ] " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " . وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : " ثم كان من الذين آمنوا " [ البلد : 17 ] قائما مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن . وقيل : هو جار مجرى الدعاء ، كقوله : لا نجا ولا سلم . وقال : معنى " فلا اقتحم العقبة " أي فلم يقتحم العقبة ، كقول زهير :
وكان طَوَى كَشْحًا على مُسْتَكِنَّةٍ *** فلا هو أبْدَاهَا ولم يَتَقَدَّمِ{[16079]}
أي فلم يبدها ولم يتقدم . وكذا قال المبرد وأبو علي : " لا " : بمعنى لم . وذكره البخاري عن مجاهد . أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا ، فلا يحتاج إلى التكرير . ثم فسر العقبة وركوبها فقال " فك رقبة " وكذا وكذا ، فبين وجوها من القرب المالية . وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين : معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار . تقديره : أفلا اقتحم العقبة ، أو هلا اقتحم العقبة . يقول : هلا أنفق ماله في فك الرقاب ، وإطعام السغْبَان ، ليجاوز به العقبة ، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم . ثم قيل : اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل ، أي هل تحمل عظام الأمور في إنفاق ماله في طاعة ربه ، والإيمان به . وهذا إنما يليق بقول من حمل " فلا اقتحم العقبة " على الدعاء ، أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا . وقيل : شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا ، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة ، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله . قال ابن عمر : هذه العقبة جبل في جهنم . وعن أبي رجاء قال : بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة ، ومهبطها سبعة آلاف سنة . وقال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله . وقال مجاهد والضحاك والكلبي : هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف ، مسيرة ثلاثة آلاف سنة ، سهلا وصعودا وهبوطا . واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء . وقيل : اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة . وروي عن أبي الدرداء أنه قال : إن وراءنا عقبة ، أنجى الناس منها أخفهم حملا . وقيل : النار نفسها هي العقبة . فروى أبو رجاء عن الحسن قال : بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار . وعن عبد الله بن عمر قال : من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : [ من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار ، حتى فرجه بفرجه ] . وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما ، كان فكاكه من النار ، يجزي كل عضو منه عضوا منه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة ، كانت فكاكها من النار ، يجزي كل عضو منها عضوا منها ] . قال : هذا حديث حسن صحيح غريب . وقيل : العقبة خلاصه من هول العرض . وقال قتادة وكعب : هي نار دون الجسر . وقال الحسن : هي والله عقبة شديدة : مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان . وأنشد بعضهم :
إني بليتُ بأربعٍ يرمينَنِي *** بالنَّبْلِ قد نَصَبُوا عليَّ شِرَاكَا
{ فلا اقتحم العقبة } الاقتحام الدخول بشدة ومشقة والعقبة عبارة عن الأعمال الصالحة المذكورة بعد . وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل لأنها تصعب ويشق صعودها على النفوس ، وقيل : هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلا من عمل هذه الأعمال و " لا " هنا تخصيص بمعنى " هلا " وقيل : هي دعاء وقيل : هي نافية واعترض هذا القول بأن " لا " النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى ، والتقدير : فلا اقتحم العقبة ، ولا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ، وقال الزجاج قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } يدل على التكرار لأن التقدير فلا اقتحم العقبة ولا آمن .
ولما كان معنى ما مضى أن هذا الإنسان عاجز وإن تناهت قوته ، وبلغت الذروة قدرته ، لسبق قوله تعالى :{ وخلق الإنسان ضعيفاً }[ النساء : 28 ] وأنه معلوم جميع أمره مفضوح في سره كما هو مفضوح في جهره ، كما أشار إليه حديث جندب رضي الله تعالى عنه عند الطبراني " ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها " وحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عند أحمد وأبي يعلى " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة يخرج عمله للناس " فهو موصول إليه ومقدور عليه ، وأنه كان يجب عليه الشكر على ما جعل له سبحانه وتعالى من القوى التي جعلها لسوء كسبه آلات للكفر ، سبب سبحانه وتعالى عنه قوله تفصيلاً للأشياء الموصلة إلى الراحة في العقبى نافياً لفعلها عنه على سبيل الحقيقة دلالة على عجزه : { فلا اقتحم } أي وثب ورمى بنفسه بسرعة وضغط وشدة حتى كان من شدة المحبة لما يراه فيما دخل فيه من الخير . كأنه أتاه من غير فكر ولا روية بل هجماً { العقبة * } وهي طريق النجاة ، والمقرر في اللغة أنها الطريق الصاعد في الجبل المستعار اسمها لأفعال البر المقرر في النفوس أنها مريحة لا متعبة ، مع كونها أعظم فخراً وأعلى منقبة ، لأنا حجبناه عنها بأيدينا وعظيم قوتنا وعجيب قدرتنا ، وذلك أن الخير لما كان محبباً إلى القلوب معشوقاً للنفوس مرغوباً فيه لا يعدل عنه أحد ، جعلناه في بادىء الأمر كريهاً وعلى النفوس مستصعباً ثقيلاً حتى صار لمخالفته الهوى كأنه عقبة كؤود ، لا ينال ما فيه من مشقة الصعود ، إلا بعزم شديد وهمة ماضية ، ونية جازمة ، ورياضة وتدريب ، وتأديب وتهذيب ، وشديد مجاهدة وعظيم مكابدة للنفس والهوى والشيطان ، بحيث يكون متعاطيه في فعله له كالرامي بنفسه فيه بلا روية رمي العاشق له المتهالك عليه ، فكان هذا سبباً لأن هذا الجاهل بنفسه المتعدي لطوره لم يختر لنفسه الخير بما أوتي من البصر الذي يبصر به صنائع الله ، والبصيرة التي يعرف بها ما يضره وما ينفعه شكراً لربه سبحانه وتعالى ويكون ذلك لإحسانه إليه ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وهل جزاء النعمة إلا الشكر ، بل اختار الشر وارتكب الضر مع أنا هيأناه لكل منهما فبانت لنا القدرة . واتضحت في صفاتنا العظمة ، وتحقق له الضعف وظهر منه النقص والعجز ، فوجب عليه لعزتنا الخضوع ، وإجراء مصون الدموع وإظهار الافتقار والذل والصغار ، لنقحمه سبيل الجنة وننجيه من طريق النار ، ومن اقتحم هذه العقبة التي هي للأعمال الصالحة اقتحم عقبة الصراط ، فكانت سهولتها عليه بقدر مكابدته لهذه ، واستراح من تلك المكابدات والأحزان والهموم وصار إلى حياة طيبة كما قال الله تعالى
{ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة }[ النحل : 97 ] الآية ، واقتحامها بأن يرتحل من عالمه السافل إلى العالم العالي الكامل الذي ليس فيه إلا اللذة ، وذلك هو الاعتراف بحق العبودية ، وتلك هي الحرية لأن الحر من خرج من رق الشهوات إلى خدمة المولى ، فصار طوع أمره في سره وجهره لا حظ لشهوة فيه ولا وصول لحظ إليه ، وذلك يكون بشيئين : أحدهما جذب والآخر كسب ، فالمجذوب محمول .