{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم . . . } أي وإن انفلت أحد من أزواجكم إلى الكفار ، ولم يؤدوا إليكم ما دفعتم لهن من المهور . { فعاقبتم } أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم منهم . { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } من الغنيمة ، { مثل ما أنفقوا } وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى الذي زوجته من الغنيمة قبل أن يخمّسها – المهر ولا ينقص من حقه شيئا ، وروى عن مجاهد وقتادة وعطاء : أن هذا الحكم منسوخ ، وقيل غير منسوخ .
وقوله : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ } بأن ذهبن مرتدات ، { فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين ، فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه ، لزم أن يعطيه فعلى المسلمون من الغنيمة بدل ما أنفق{[1062]} .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإيمانكم بالله ، يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام .
الأولى- قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } في الخبر : أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } . وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حكم الله عز وجل بينكم فقال جل ثناؤه : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها . فكتبوا إليهم : أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا ، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به ، فأنزل الله عز وجل : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض . قال الزهري : ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا . وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة . وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد . وقالا : ومعنى " فعاقبتم " فاقتصصتم . " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " يعني الصدقات . فهي عامة في جميع الكفار . وقال قتادة أيضا : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين{[14913]} بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا . ثم نسخ هذا في سورة " التوبة " . وقال الزهري : انقطع هذا عام الفتح . وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضا . حكاه القشيري .
الثانية- قوله تعالى : " فعاقبتم " قراءة العامة " فعاقبتم " وقرأ علقمة والنخعي وحميد والأعرج " فعقبتم " مشددة . وقرأ مجاهد " فأعقبتم " وقال : صنعتم كما صنعوا بكم . وقرأ الزهري " فعقبتم " خفيفة بغير ألف . وقرأ مسروق وشقيق بن سلمة " فعقبتم " بكسر القاف خفيفة . وقال : غنمتم . وكلها لغات بمعنى واحد . يقال : عاقب وعَقَب وعَقَّب وأعقب وتَعَقّب واعتقب وتعاقب إذا غنم . وقال القتبي " فعاقبتم " فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو . وقال ابن بحر : أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين .
الثالثة- قوله تعالى : { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } قال ابن عباس : يقول إن لحضت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم ، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : يعطي من مال الفيء . وعنه يعطى من صدق من لحق بنا . وقيل : أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم . قال الأعمش : هي منسوخة . وقال عطاء : بل حكمها ثابت . وقد تقدم جميع هذا . القشيري : والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم القرشي ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام . وحكى الثعلبي عن ابن عباس : هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري{[14914]} . وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما هاجر عمر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبدالعزى ، كانت تحت هشام بن العاص ، وأم كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب ، وشهبة بنت غيلان ، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة . { واتقوا الله } احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .
{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } معنى : { فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } هروب نساء المسلمين إلى الكفار ، والخطاب في قوله : { فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } للمسلمين وقوله : { عاقبتم } ليس من العقاب على الذنب وإنما هو من العقبى أي : أصبتم عقبى وهي الغنيمة أو من التعاقب على الشيء كما يتعاقب الرجلان على الدابة إذا ركبها هذا مرة وهذا مرة أخرى ، فلما كان نساء المسلمين يهربن إلى الكفار ونساء الكفار يهربن إلى المسلمين جعل ذلك كالتعاقب على النساء وسبب الآية أنه لما قال الله : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } [ الممتحنة : 10 ] : قال الكفار لا نرضى بهذا الحكم ولا نعطي صداق من هربت زوجته إلينا من المسلمين ، فأنزل الله هذه الآية الأخرى وأمر الله المسلمين أن يدفعوا الصداق لمن هربت زوجته من المسلمين إلى الكفار ويكون هذا المدفوع من مال الغنائم على قول من قال : إن معنى : { فعاقبتم } غنمتم .
وقيل : من مال الفيء ، وقيل : من الصدقات التي كانت تدفع للكفار إذا فر أزواجهم إلى المسلمين فأزال الله دفعها إليه حين لم يرضوا حكمه وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآية ، قد ارتفعت لأنها نزلت في قضايا معينة وهي مهادنة النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي العرب ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة فلا تجوز مهادنة المشركين من العرب إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف ، وإنما تجوز مهادنة أهل الكتاب والمجوس لأن الله قال في المشركين : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وقال في أهل الكتاب { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .
ولما كان المظنون بالكفار عدم العدل فلا يعطون المؤمنين مهور نسائهم الكافرات ، قال مداوياً لذلك الداء{[64692]} : { وإن فاتكم } أي بالانفلات منكم بعد الهجرة أو بإدامة الإقامة في بلاد{[64693]} الحرب { شيء } أي قل أو كثر { من أزواجكم } أي من أنفسهن أو مهورهن { إلى } أي متحيزاً أو واصلاً{[64694]} إلى { الكفار } فعجزتم عنه { فعاقبتم } أي تمكنتم من المعاقبة بأن فات الكفار شيء من أزواجهم بالهجرة إليكم أو اغتنمتم{[64695]} من أزواج{[64696]} الكفار فجاءت نوبة{[64697]} ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم عصياناً وظلماً ، { فآتوا } أي فاحضروا{[64698]} وأعطوا من مهر المهاجرة ، { الذين ذهبت أزواجهم } أي{[64699]} منكم إن اختاروا الأخذ ، { مثل ما أنفقوا } على الكافرة الفائتة إلى{[64700]} الكفار مما غنمتم من أموالهم أو بأن تدفعوا إليهم مثل مهر أزواجهم مما{[64701]} كنتم تعطونه{[64702]} لأزواج المهاجرات ، فيكون ذلك جزاء وقصاصاً لما فعل الكفار .
ولما كان التجزي في مثل ذلك عسراً على النفس{[64703]} فإن المهور تتفاوت تارة وتتساوى تارة أخرى وتارة تكون نقوداً و{[64704]}تارة تكون عروضاً إلى غير ذلك من الأحوال مع أن المعامل عدو في الدين فلا يحمل على العدل فيه إلا خالص التقوى قال : { واتقوا } أي في الإعطاء والمنع وغير ذلك{[64705]} { الله } الذي له صفات الكمال وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون ، ثم وصفه بما يؤكد صعوبة الأمر{[64706]} ويحث على العدل فقال ملهباً لهم كل الإلهاب هازاً لهم بالوصف بالرسوخ {[64707]}في الإيمان{[64708]} : { الذي أنتم به } أي خاصة { مؤمنون * } أي متمكنون في رتبة الإيمان .