تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغٗا قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمۡ يَهۡدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّآلِّينَ} (77)

الآيات 76-79 وقوله تعالى : { فلما جن عليه الليل } إلى قوله : { من المشركين } تكلموا في تأويل الآية على أوجه ثلاثة :

فمنهم من جعل الأمر على ما عليه الظاهر أنه عارف بربه حق المعرفة إلى أن عرف من الوجه الذي بان له عند الفراغ من آخر ما نسب إليه الربوبية أنه لا يعرف من جهة درك الحواس ووقوعها عليه ، ولكن من جهة الآيات وآثار العقل ، فقال : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } الآية [ الأنعام : 79 ] .

لكن أهل هذا القول اختلفوا على وجوه ثلاثة :

أحدها : ما روي في التفسير أنه ربي في السرب ، ولم يكن نظر إلى شيء من خلق السماء ، فنظر من{[7302]} باب السرب في أول الليل ، فرأى الزهرة بضوئها وتلألئها ، وكان في علمه أنه له ربا ، وأنه يرى ، فلم ير أضوأ{[7303]} منها ولا أنور ، فقال : { هذا ربي فلما أفل } وله علم أن الرب دائم ، لا يزول ، فقال : { لا أحب الآفلين } بمعنى : ليس هذا برب كقولهم{[7304]} { سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } [ الفرقان : 18 ] أي ليس لنا ، وقول عيسى حين{[7305]} { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } [ المائدة : 116 ] بمعنى : ما قلت ذلك .

ولكن أهل التفسير حملوا الأفول على غيبوبته بنفسه ، وهو عندنا على غيبوبته بسلطان{[7306]} القمر ، وقهر سلطان القمر ، لما طلع سلطان النجم .

وعنده أن الرب لا يقهر ، وأن سلطانه لا يزول . وعلى ذلك أمر القمر والشمس بظلمة الليل . وفي ذلك أنه لو كان عنده أن الرب لا يقهر ، وأن سلطانه لا يزول ، وأنه لا يرى ، لأنكر من ذلك الوجه أن يكون ربه ، بل أقر به ، وأنكر الأفول والزوال . وهذا ينقض قول من يصفه بالزوال والانتقال من حال إلى حال .

ومنهم{[7307]} من يقول : كان هذا منه في وقت ، لم يكن جرى عليه القلم ، سمع الخلق يقولون{[7308]} في خلق السماء والأرض ونحو ذلك ، وينسبون ذلك إلى الله . وعلى ذلك أمر جميع أهل الشرك كقوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } [ العنكبوت : 61 و . . ] وقوله تعالى : { لمن الأرض } إلى قوله { ما اتخذ الله من ولد } [ المؤمنون : 84-91 ] ثم رآهم عبدوا الأصنام ، وسموها آلهة ، فتأمل ، فوجدها لا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تنفع ، ولا تضر ، فعلم{[7309]} أن مثلها لا يحتمل أن يكون يخلق ما ذكرت ، وإن الذي ذلك فعله لعلي عظيم ، يجب طلب معرفته من العلو بما كان يسمع نسبة الملائكة إلى السماء ونزول الغيث منها ومجيء النور والظلمة وكل أنواع البركات وغيرها منها . فصرف تدبير الطلب الذي نسب إليه الخلق إليها ، ثم أول ما أخذ في التأمل والنظر لم يقع بصره على أحسن وأبهى من الذي ذكر ، فظن ذلك .

ثم لما قهر ، وقد كان علم بأن خالق من ذكر لا يجوز أن يقهر ، فمن ذلك علم أنه ليس هو ، وقال : [ { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } ]{[7310]}إلى أن قهر الليل ضوء الشمس ، أو صارت بحيث لا يجري له السلطان ، أو رأى في الكل آثار التسخير والتذليل ، ولم ير فيها أعلام من له الأمر والخلق ، فعلم أن الرب لا يدرك من ذلك الوجه ، ولا يعرف من جهة الحواس ، فرجع إلى ما سمع من أنه خلق السماوات والأرض ، فوجه نفسه إليه بالعبودية ، واعترف له بالربوبية بما في الخلق من آثار ذلك وفي القول من تسمية من له الخلق ربا وإلها ، فآمن به . وذلك كان أول أحوال احتماله علم الاستدلال وبلوغه المبلغ الذي من بلغه يجري عليه الخطاب ، ولا قوة إلا بالله .

ومنهم{[7311]} من قال : إنه كان بالغا قد جرى عليه القلم ، وقد كان رأى ما ذكر غير مرة ، لكن الله لما أراد أن يهديه ألهمه ذلك ، وألقى في نفسه ، فانتبه الإنسان بشيء كان عنه غافلا من قبل ، فرأى كوكبا أحمر يطلع عند غروب الشمس ، فراعاه إلى أن أفل ، فأراد من الله قربة ، وعلم أن ربه لا يزول ، ولا يتغير ، ففزع إليه ، وقال : { لا أحب الآفلين } وكذا ذكر في القمر والشمس إلى أن عرفه الله ، فتبرأ{[7312]} مما كانوا يشركون ، وتوجه{[7313]} بالتوحيد والعبادة إليه .

وإلى هذا التأويل ذهب الحسن ، وإلى الأول [ ما ]{[7314]} روي عن ابن عباس رضي الله عنه .

والثاني : قال به جماعة أهل الكلام ، ونحن نتبرأ إلى أن نجعله رجلا بالغا جرى عليه القلم ، وهو كان عن الله بهذه الغفلة حتى يتوهمه في معنى نجم أو قمر أو شمس مع ما يرى فيها الظهور بعد أن لم يكن والأفول{[7315]} بعد الوجود ثم آثار التسخير والعجز عن التدبير بما هو في جهد وبلاء ومن له يعمل في راحة وسرور . ثم [ لا ]{[7316]} يرى في شيء من العالم أن{[7317]} له معنى يدل على رجوع التدبير ، فيتحقق له القول بذلك ، والله يصفه بقوله : { إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات : 84 ] وقيل : { سليم } من الشرك ، لم يشبه شيء .

وقال : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ] وما يذكرونه إنما أتاه على نفسه ؛ إذ هو في الغفلة عنها والجهل بمن له الآيات ، وقد قال أيضا : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] ومعلوم أن ذلك على معاينة أو ذلك قد أري كلا منا .

ولكن على ما بينت من الوجهين ، وفيهما حقيقة ، وليس في قوله تعالى : { وليكون من الموقنين } دلالة للشك في الابتداء والجهل في الحال التي يحتمل به عز وجل ولكن على أنه على ذلك الوجه يكون الإيقان بمن لا تقع عليه الحواس ، ولا{[7318]} توجب علمه الضرورات ، إنما هو الاستدلال بالآثار أو تلقي الأخبار ولا قوة إلا بالله .

وذلك كقوله تعالى : { الله الذي رفع السماوات بغير } [ الرعد : 2 ] لا عن وضع ، وقوله تعالى : { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } [ المائدة : 16 ] لا أن كانوا{[7319]} من قبل في الظلمات ، وقول يوسف : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } [ يوسف : 37 ] لا عن كون فيها . وهكذا أمر الإيمان أن يكون العبد في كل وقت موقنا بالله وأن لا إله غيره ، لا عن شك في ما تقدمه من الوقت والجهل . فمثله أمر إبراهيم عليه السلام .

والوجه الثاني : مما تكلم في التأويل أن يكون إبراهيم ، صلوات الله عليه ، كان مؤمنا في ذلك الوقت عارفا بربه حق المعرفة ، ولكنه كلم قومه كلام مستدرج بإظهار المتابعة لهم على هواهم ، فيكونون به أولى وإليه أميل . وذلك أبلغ في الحجاج وألطف في المكيدة ، فيبين لهم ما{[7320]} أراد من غير جهة النقض والعناد ، فبدأ بتعظيم ما عظموه ؛ إذ هم قوم كانوا يعظمون النجوم ، وبالعلم بأمرها أخبروا نمرود بولادة من يهلك على يده هو ، ويزول ملكه ، وهذا كما ذكر أنه { فنظر نظرة في النجوم } [ الصافات : 88 ] في مقاييسها وعلمها نظر{[7321]} إليها ، ثم قال الذي ذكر لا من حيث علم النجوم ، ولكن من حيث علمه أنه يموت ، ومن يموت يسقم ، لكن أراهم الموافقة في العلم الذي لهم في ذلك الباب دعوى .

فكذلك ما نحن فيه . وعلى ذلك أمر البد الذي كان يعبده{[7322]} قوم ، عظمته [ الحواريون الذين ]{[7323]} أرسل إليهم حتى اطمأنوا ، وصدروا عن تدبيره ، وبلوا بعذاب{[7324]} ، وكاد يحيط بهم ، فدعاهم إلى دعاء البد ليكشف لهم ، إذ لمثله يعبد ، حتى أيسوا ، فدعاهم إلى الله ، فكشف عنهم ، فآمنوا به . فمثله الأول .

وإلى هذا التأويل يذهب القتبي ، لكنه ذكر أنهم كانوا أصحاب نجوم وكهانة . ومن ذلك قوله : لا يعبد النجم{[7325]} ، لا يراه ربا ، كيف أظهر الموافقة بتسمية النجم ربا ؟ ثم النقض عليه /153-أ/ بالأفول ؟ ولكن على ذلك لو كان فإنما كان في قوم يعبدون النجوم والشمس والقمر ، فألزمهم بالأفول ؛ إذ فيه تسخير وغلبة سلطان .

وهذا الوجه يجوز أن يظهر على إضمار معنى ، في نفسه مستقيم ، كالمكره على عبادة صليب ، يقصد قصد عبادة الله ، والمكره على شتم محمد صلى الله عليه وسلم يقصد قصد محمد آخر ، يصوره في وهمه ونحو ذلك . وهو على ما { قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } [ الأنبياء : 63 ] على جعل أن كانوا ينطقون شرطا في نفسه في قوله { قال بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] والله أعلم .

وقيل : في الاستدراج من غير هذا الوجه على التسليم أنهم أهل كهانة{[7326]} ونجوم ؛ وهو أنه لما رآهم يعبدون الأصنام والأوثان دعاهم من طريق المقابلة ، إذ هم مالوا إلى ذلك بما رأوا من حسن في المبصر بما قد زين بأنواع الزين{[7327]} وحلي بأنواع الحلي ، فأراهم أنه يعبد النجم ، وما ذكر{[7328]} ، وأن الذي ذكر أحسن وأعظم نورا وضياء ؛ إذ هو بجوهره ونفسه كذلك ، وما كانوا يعبدون بما فعلوا به ، وجعلوه{[7329]} كذلك ، ليكره إليهم عبادتهم الأصنام ، ويستنقذهم عما اعتادوه بالمعنى الذي ذكرت ، ثم ألزمهم فساد ما مالوا إليه ، وقبلوا أن يقر ذلك في قلوبهم ، وتطمئن إلى ذلك أنفسهم بما أظهر من فساد أن يكون الذي بذلك الوصف من التسخير أو ملكه على شرف الزوال ، أو يصير بحيث يقر في قلوبهم عبادة من لا يشهدونه وقت العبادة ، فيلزمهم على ذلك عبادة المستحق لها{[7330]} ، أو أن يقول : إذا كانت النجوم وما ذكر من ضيائها ونورها وكثرة منافع الخلق بها لم يصلح لها الألوهية عند الجميع بالأفول والتسخير . فالذي كانوا يعبدون على ما [ سخروه كان ]{[7331]} تحت البشر ذليلا{[7332]} ، لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا ينفع ، أحق ألا يكون له الروبية ، وألا يوجه إليه العبودة ، والله أعلم . فهذا النوع من الاستدراج في ما لو ظهر لهم{[7333]} لم يكونوا يتخذون النجوم أربابا يعبدونها ، وكذلك الذي ذكره القتبي .

والتأويل الثالث للآية يخرج مخرج الإنكار والاستهزاء . ويكون في ذلك معنى الاستدراج ؛ إذ هو الإلزام من حيث لا يشعر به أو نقض أسباب الشبه درجة فدرجة في حلول الوقت وحلول المقصود وتعاطي ذلك الابتداء بالكشف عن الأسباب .

ثم قيل في هذا بأوجه :

أحدها : أنهم كانوا يعبدون النجوم وما ذكر ، ويدعون إلى ذلك الأولاد والصبيان ، وإبراهيم منهم في ما كانوا يدعونه إليه . فقال لما رأى النجم : هذا الذي تعبدون ربي ، أي إلى عبادته تدعونني ، أي هذا ربي الذي تدعونني إلى عبادته . فلما رآه طالعا سابحا غائبا ثبت عنده أنه مسخر ، فقال : لا أحب عبادته . لكن ذا قد يكون في خاص نفسه متفكرا في الذي دعوه إليه ليعرف وقع قولهم من الوجه الذي يقر ذلك في القلوب إذا قابلهم . وقد يكون في ملإ منهم ، يظهر لهم قوله : { هذا ربي } [ الأنعام : 76و 77 و 78 ] على إضمار : تدعونني إليه ، ليلزمهم بما بان له فساد الربوبية ، فيكون استدراجا أيضا لأنه ألزمهم بعد ظهور الوفاق منه لهم ، وقد يكون ذكر هذا الذي تدعونني [ إليه ]{[7334]} ربي سرا ، ويهزأ بهم بإظهار الموافقة ؛ يبين لهم ذلك بما ألزمهم أن الابتداء لم يكن على المساعدة ، إذ ذلك المعنى الذي به ألزم كان ظاهرا عنده في الابتداء وعندهم جميعا .

والثاني : أن يكون قوله : { هذا ربي } على ما يقال : هذا فلان الذي تخبرونني عنه ، بمعنى أهذا هو ؟ على إنكار أنه ليس بالمحل الذي أخبرتموني عنه ، أو على الاستفهام ليقرره عنه ، أو على الوجهين كان ، وقد هزئ بهم ، وظهر في المتعقب أن الأول كان{[7335]} على الهزء بهم والاستفهام ؛ وذلك كقوله تعالى : { خلقوا كخلقه } [ الرعد : 16 ] على أنهم لم يخلقوا كخلقه ، يوضح قوله : { قل الله خالق كل شيء } [ الرعد : 16 ] في الأول { لا أحب الآفلين } .

والثالث{[7336]} : أن يكون هذا يضمر في قوله تعالى : { هذا ربي } أي رب هذا ربي إلى آخر ما ذكر ، ثم رجع إليه عندهم أنه لا تليق الربوبية بالذي ظنوا أنه ساعدهم عليه . ثم قد بينا الدليل على أنه لم يكن كافرا في ذلك الوقت مع ما قد ثبتت عصمة الرسل عن الكبائر ؛ فكيف يبلون بالكفر ؟ والله يقول : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] . وكل متمكن فيه الكفر شريك أمثاله ، فلا وجه لتخصيص الأصل .

ثم جملة ذلك أن الله ، سبحانه ، لو أراد أن يبين حقيقة الحال ، أو كانت بنا إلى معرفة حقيقة ذلك من المراد والوقت الحاجة{[7337]} في أمر الدين لكان يبين ذلك ، أو يرد في ذلك [ حديث ]{[7338]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن العلم بحقيقة ذلك ، إذ هو علم الشهادة بما ليس لنا وعلينا [ للوصول إليه عمل تحالف ]{[7339]} ، ولا نكلف الشهادة بوقت القول . وما يتمكن فيه ، فحقه أن يتأمل وجه الحكمة في ذكر القصة وما فيها من الحجة في أمر الدين .

فهو ، والله أعلم ، يخرج على وجوه :

أحدها : على جعل ذلك حجة لرسالة رسوله ؛ إذ هو من أنباء الغيب ، ونبي الله نشأ بمكة ، ولم يكن ثم من يعلم ذلك ، ولا فارق قومه [ ولا ]{[7340]} اختلف إلى من عنده علم الأنباء بتوارثهم كتب الأنبياء ، ولا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يخط بيمينه{[7341]} ، ويقف على المكتوب . دل أنه علمه بالله عز وجل مع ما كان في القصة [ من ]{[7342]} حجج التوحيد ودفع عبادة الأصنام وتسفيه أهل ذلك ، لم يحتمل أن يكون تعليم مثل ذلك من الدافعين لذلك ، المدعين على إبراهيم اليهودية والنصرانية .

[ والثاني : أن ]{[7343]} كتبهم بغير لسانه ، وفي العبادة بلسان [ آخر ]{[7344]} يوهم الاختلاف والتغيير ، فلا يحتمل الاحتجاج بمثله ما يحتمل الإنكار والدفع ، وفيه استعطاف قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم من ذرية إبراهيم عليه السلام بما يدعوهم إلى دين آبائهم ، مع ما كانوا هم أصحاب تقليد وحفظ آثار الآباء ، فألزمهم القول في آبائهم بما لا [ يدفع بهم القول بغير الذي قالوا ]{[7345]} ؛ إذ إبراهيم عليه السلام عند جميع المشركين إمام ، يؤتم به ، أحق من كل أب ، مع ما كان كل مولود على دينه مذكورا محفوظا في الخلق ، ومن خالفهم فهو ممحوق الاسم والذكر جميعا . فكان في ذلك أعظم الدليل أن هؤلاء من الأنبياء أحق بالتقليد من الذين اتبعوه . وعلى ذلك اتفاق أهل الكتاب على موالاة إبراهيم من غير أن تهيأ لهم دفع ما أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم من توحيده ولا ما قر عندهم من دينه بشيء يجدونه خلافا لذلك في كتبهم .

والثالث : أن إبراهيم ، صلوات الله عليه ، صرف معرفة الرب من جهة خلقه ، ودان بدينه من جهة النظر في الآيات والبحث عنها دون أن يقلد أباه أو قومه ليعرف سبيل طلب الحق ، ووجه أتباعه ليكون ذلك تذكرة لجميع ذريته .

والرابع : أنه ذكر الخبر عن أحواله بمخرج : ظاهره يوهم المكروه ؛ وله وجه الصرف إلى ما [ ليس فيه نفار الطبع منه ولا تأب ]{[7346]} للعقل ليمتحن عباده بالقول فيه والوقف في أمره .

والخامس : ليعلم أن المحاجة في الدين قدر ما تحتمله العقول لازمة ؛ إذ بها أفحم إبراهيم قومه ، وأظهر دين ربه ، فيبطل بذلك قول كثير من المسلمين الذين يكرهون المناظرة في الدين ، ويرون في ذلك تقليد الأستاذين أو ظواهر ما جاء به الآثار التي في اتباع أمثالها تناقض عند /153-ب/ العقلاء ، ولا قوة إلا بالله .

والسادس : أن المناظرة تكون بوجهين : بطلب{[7347]} الدلالة في إثبات القول وبإظهار الفساد بما يتمكن فيه من العيب ؛ إذ هو رد ما ادعوا من الربوبية في من ذكروا{[7348]} بما في ذلك من آثار التدبير لغيره ؛ ولذلك{[7349]} قال في الأصنام : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } [ مريم : 42 ] وقال : { وما لي لا أعبد الذي فطرني } [ يس : 22 ] وقال في موضع آخر { الذي خلقني } [ الشعراء : 78 ] فمرة أبطل قولهم بالمعنى الذي بضده احتج ، و[ مرة بالمعنى الذي فيه إثبات الحقيقة ]{[7350]} . وجائز في كل ذلك أن يقول لهم : ما الدليل على ما تدعون لما تذكرون من الربوبية ؟

والسابع : جواز التسليم بإظهار الموافقة ، وإن كان المسلم بحقيقة ذلك منكرا ، وله دافعا{[7351]} ، إذا كان في المساعدة بذلك في الظاهر نيل الفرصة والظفر بالبغية ؛ إذ على ذلك خرّج مناظرته قومه ، وعلى ذكر ما احتج به في قوله : { ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 258 ] إذ قال خصمه { أنا أحي وأميت } [ البقرة : 258 ] وعلى{[7352]} إقباله على حجة هي أوضح من ذلك وأقهر للعقل وألزم في الطبع ، فقال : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } [ البقرة : 257 ] .

والثامن : أن يعلم أن الله لم يهمل القوم في شيء من الأزمنة دون أن يجعل{[7353]} لهم أدلة للحق يظفرون بها لو تأملوا ، ولا ألزم خلقه في زمان من الأزمان بشيء ، لو بحث عنه ، لا يوقف عليه ، ولا يتهيأ له . ولذلك أظهر الحجج ، وأنار{[7354]} البينات ليعلم أنه جعل أوامر كلها تالية الأدلة والبراهين ليقطع بها عذر من تأبى نفسه القيام به .

والتاسع : أن يعلم أنه لا أحد يقوم بالحجاج ، ولا ينطق بحسن البيان إلا بعطية الله وامتنانه عليه بما ينطق به لسانه ، ويوفقه للقيام به بقوله : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ] .

ثم العاشر : أن يكون بفضله تنال الدرجات في أمر دينه ، ويرتقى إلى منازل الفضل والشرف بمشيئته كما قال : { نرفع درجات من نشاء } [ الأنعام : 83 ] وأنه متى شاء الرفع كان ، والله أعلم .

وقد قال بعض أصحابنا : الإمامة في تأويل الآية ، رغم أنهم أخذوه من شرح ، على أن تأويل النجم المأذون وتأويل{[7355]} القمر اللاحق وتأويل{[7356]} الشمس الإمام ؛ بمعنى أنه قال [ عن المأذون ]{[7357]} : { هذا ربي } يعني به رب التربية ؛ رباه بالعلم . وقوله عز وجل { فلما أفل } أي فني ما عنده ، رغب عنه ، وقال : { لا أحب } ثم ظهر باللاحق ثم كذلك بالإمام .

ثم توجه نحو التالي بالقبول ؛ إذ التالي عندهم ، هو الذي بظن ما ذكر . فلما جاوز درجة المؤوم ، وهو الإمام ، صار إلى درجة الرسالة ، وهو القائل عن{[7358]} التالي بالخبال ، والمصور للشرائع عندهم ، فألزموا بهذا عبادة أرباب .

وإن الارتفاع من درجة إلى درجة بأولئك ، وذلك أمر متناقض على المتأمل ؛ لأنه لما فني ما عند المأذون صار إلى اللاحق ، واللاحق{[7359]} كان به مأذونا ، فلم يكن الثاني بما يصير إليه أحمد من الأول ؛ إذ ما كان به صار مأذونا ، ولو كان ثم درجة أخرى .

فأما أن يكون ينال{[7360]} تلك في الوقت الذي يلقي المأذون ذلك إلى غيره ، أو لا ؛ فإن كان لا ينال فلا أسفه من المأذون حين{[7361]} امتنع عما يلقيه{[7362]} إلى الدرجة الثانية ، وبلغه{[7363]} غيره ، وإما ينال معه في درجة المؤوم .

فكيف قال : لا أحبه ، وهو إثر الذي ذلك وصفه ؟ ثم كيف قال : { لا أحب } ذهاب ما به آخذ بحظه عن الآخذ من الآخر ؟ وكيف صار ربه قبل أن يربيه ؟ فلما رباه تبرأ من ربوبيته ، وآثر ربا آخر . فإذا عاقبة شكره سعي ربه في شأنه كفرانه به . وكذلك [ أمره ]{[7364]} درجة فدرجة حتى يكفر بالتالي . ثم بالعقل يصير إلى رب العالمين . وهو الرب في الابتداء والانتهاء ؛ لا رب سواه عز وجل عن الشركاء ؛ إذ إليه حاصل الأمر ومصير الخلق . ولو كان [ كل ]{[7365]} مرتق حدا يرتقيه{[7366]} آخر لكانت تلك الحدود ، ويكون{[7367]} أبدا آخرها ، فيكون الكل تواليا{[7368]} أو نطفا ، ويبطل الأولاء والمأذونون والأئمة جميعا .

وقد كرم الله تعالى عليا ، كرم الله وجهه ، عن هذا الخيال ، وعصمه عن هذا الوسواس ، والحمد لله .


[7302]:- في الأصل وم: عن.
[7303]:- في الأصل وم: ضوء.
[7304]:- في الأصل وم: بقوله.
[7305]:- في الأصل وم: حيث.
[7306]:- في الأصل وم: في سلطان.
[7307]:- هذا هو الوجه الثاني من وجوه أقوال أهل التأويل في هذه الآية.
[7308]:- في الأصل وم: يقول.
[7309]:- في الأصل وم: علم.
[7310]:- في الأصل وم: لمن قهر وذلك.
[7311]:- هذا هو الوجه الثالث من وجوه أقوال أهل التأويل في هذه الآية.
[7312]:- في الأصل وم: فيتبرأ.
[7313]:- في الأصل وم: ووجه.
[7314]:- ساقطة من الأصل وم.
[7315]:- من م، في الأصل: والأقوال.
[7316]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7317]:- في الأصل وم: أو.
[7318]:- في الأصل وم: ولو.
[7319]:- في الأصل وم: قالوا.
[7320]:- في الأصل وم: من.
[7321]:- أدرج قبلها في الأصل وم: لأنه.
[7322]:- في الأصل وم: يعبدهم.
[7323]:- في الأصل وم: الحواري الذي.
[7324]:- في الأصل وم: بعد.
[7325]:- من م، في الأصل: النجوم.
[7326]:- في الأصل وم: كفاية.
[7327]:- من م، في الأصل الذي.
[7328]:- في الأصل: ذكروا.
[7329]:- في الأصل وم: وجعلوا.
[7330]:- من م، في الأصل: ما.
[7331]:- في الأصل وم: سخرهم.
[7332]:- في الأصل وم: أذلاء.
[7333]:- في الأصل وم: أنهم
[7334]:- في الأصل وم: فيه.
[7335]:- من م، في الأصل: لكان.
[7336]:-في الأصل وم: يجوز.
[7337]:-في الأصل وم: والحاجة.
[7338]:- ساقطة من الأصل وم.
[7339]:- في الأصل وم: بالوصول عمل تحالف.
[7340]:- ساقطة من الأصل وم.
[7341]:- في الأصل: بيمينا.
[7342]:- ساقطة من الأصل وم.
[7343]:- في الأصل وم: وبعد فإن.
[7344]:- ساقطة من الأصل وم .
[7345]:- في الأصل وم: معرفتهم القول بغير الذي قالوا.
[7346]:- في الأصل: فيه نفار عنه الطبع ولا تأبي، في م: ليس فيه نفار منه للطبع ولا تأبى.
[7347]:- في الأصل وم: لطلب.
[7348]:- في الأصل وم: ذكر.
[7349]:- في الأصل وم: وكذلك.
[7350]:- في الأصل وم: في ثبات فيه.
[7351]:- في الأصل وم: واقعا.
[7352]:- في الأصل وم: و.
[7353]:- في الأصل وم: جعل.
[7354]:- في الأصل وم: وأثار.
[7355]:- في الأصل وم: و.
[7356]:- في الأصل وم: و.
[7357]:- في الأصل وم: للماذون.
[7358]:-في الأصل وم: من.
[7359]:- في الأصل وم: والمأذون.
[7360]:- في الأصل وم: بيان.
[7361]:- في الأصل وم: حيث
[7362]:- في الأصل وم: يقبله.
[7363]:- في الأصل وم: وبلغ.
[7364]:- ساقطة من الأصل وم .
[7365]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7366]:- في الأصل وم: يرتقي.
[7367]:- الواو ساقطة من الأصل وم.
[7368]:- في الأصل وم: توالي.