تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ} (19)

الآيات 17 -20 : وقوله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [ { وإلى السماء كيف رفعت } { وإلى الجبال كيف نصبت } ]{[23540]} { وإلى الأرض كيف سطحت } فخص الإبل بالذكر من بين جملة الدواب ، وخص السماء والجبال والأرض بالذكر ، وتخصيصها يكون لأحد وجهين :

أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ؛ عليها كانوا يسافرون ، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه{[23541]} ، وهي أيضا ، أعني مكة ، منشؤهم بين الجبال ، فكانت لا تفارقهم الجبال ، وكانت السماء من فوقهم ، والأرض من تحتهم ، فخصت هذه الأشياء بالذكر ليعتبروا بها ، ويتدبروا .

[ الثاني : ]{[23542]} أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل لأن منافع الدواب أن ينتفع بظهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها ، فكل ذلك في الإبل ، فصارت في الإبل كالأنعام للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها ، وكذلك عظم المنافع والبركات المعقودة فيها متصلة بالسماء ؛ ففيها جعلت أرزاقهم ، فيها عين الشمس التي بها صالح الأغذية ، ونراها مزينة بزينة الكواكب ؛ فهي أيضا كالأمر في المنافع .

وكذلك الأرض كالأم في المنافع ؛ إذ فيها مأوى الخلق ، قدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم ، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس .

ثم بالجبال قوام الأرض ، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها . فخصت هذه الأشياء بالذكر لما ذكرنا .

ثم قوله تعالى : { أفلا ينظرون } يحتمل وجهين :

أحدهما : على الأمر ، أي فلينظروا .

والثاني : أن يكون على السؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم ، فنزلت هذه الآية : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } إلى آخر الآيات{[23543]} ، أي لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها نزع عنهم الإشكال ، ووضح لهم ما اشتبه عليهم .

وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لما ذكر الله تعالى ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش ، وقالوا{[23544]} : يا محمد ائتنا بآية أن ما تقول حق ، أنزل الله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } ؟

ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها { بغير عمد ترونها } [ الرعد : 2 ] والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض ، وهو البسط ، مما يوجب القول بالبعث ، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى وإلى القول بإثبات الرسالة .

وذلك أن الذي كان يحمل على إنكار البعث ، هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم/639 – أ/ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا ؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم .

فلو نظروا ، وتفكروا في خلق السماوات والأرض لعلموا أن قوة الله غير مقدرة بقوى الخلق ؛ وذلك أن السماوات خلقت ، ورفعت في الهواء بغير عمد ، وأقرت ، كذلك لا تنحدر عن موضعها ، ولا تصعد . ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط ، ولا تتصعد ، لم يقدر عليه . فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية ، ليست بمستفادة .

وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه ، لو تفكر فيه الخلائق ، فاستفرغوا مجهودهم ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء ، وكيف ينبع ، وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار ، لم يصلوا إلى معرفته ، فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به ، فيكون في ذكر [ هذه الأنباء ]{[23545]} أنه لا يخفى عليه أمر ، ولا يعجزه شيء ، بل العالم كله تحت تدبيره ، يفعل بهم ما يشاء ، ويحكم بما يريد ، وأن الذي قدر على خلق هذا قادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء ، وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية لأن الله تعالى جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض غير المنهشمة ، فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم .

فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض لكان منع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض . فلو تفكروا فيها لكان يزول عنهم الإشكال ، فلا يدعون مع الله إلها آخر ، ولا يقولون : { أجعل الإلهة إلاها واحدا إن هذا لشيء عجاب } ؟ [ ص : 5 ] .

وقولنا : إن فيه إثبات الرسالة ؛ وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لابد أن يستأدي منهم الشكر ، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه ، ثم يكون ، فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك .

فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء ، وهم لو نظروا [ إلى ]{[23546]} آخر الأبد ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء لم يهتدوا إلى ذلك الوجه ؟

فجواب أنهم لو أدركوا{[23547]} ذلك الوجه ، وفهموه ، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال ، إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي تهتدي إليها . فارتفاع الإدراك{[23548]} وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل ، ويزيل عنهم الشبه ، إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم وأنه خلافهم من جميع الوجوه ، والله الموفق .


[23540]:في الأصل وم: إلى قوله.
[23541]:في الأصل وم: إليها.
[23542]:في الأصل وم: ويحتمل وجها آخر وهو.
[23543]:في الأصل وم: الآية.
[23544]:في الأصل وم: وقال.
[23545]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: نبإ.
[23546]:ساقطة من الأصل وم.
[23547]:في الأصل وم: تداركوا.
[23548]:في الأصل وم: التدارك.