الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِذۡ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (8)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لقد كان في يوسف وإخوته آيات لمن سأل عن شأنهم حين قال إخوة يوسف: {لَيُوسُفُ وأخُوهُ}، مِنْ أمه، {أحَبّ إلى أبِينا مِنّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ}، يقولون: ونحن جماعة ذوو عدد أحد عشر رجلاً. والعصبة من الناس: هم عشرة فصاعدا، قيل: إلى خمسة عشر...

{إنّ أبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، يعنون: إن أبانا يعقوب لفي خطأ من فعله في إيثاره يوسف وأخاه من أمه علينا بالمحبة، ويعني بالمبين: أنه خطأ، يبين عن نفسه أنه خطأ لمن تأمله ونظر إليه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... يحتمل تخصيص يعقوب يوسف وأخاه بالحب لهما وجوهًا: أحدها: لما رأى فيهما من الضعف في أنفسهما، والعجز في أبدانهما، فازدادت شفقته لهما وعطفه عليهما لذلك، وهذا مما يكون فيما بين الخلق.

أو كان ذلك منه لهما لصغرهما، وهذا -أيضًا- معروف في الناس أن الصغار من الأولاد يكونون عندهم أحب، وقلوبهم إليهم أميل، وعليهم أعطف، ولهم أرحم من الكبار منهم.

أو خصهما بذلك لفضل خصوصية كانت لهما إما من جهة الدِّين، أو العلم، أو غيره، أمره اللَّه بذلك لذلك من دون غيرهما.

أو لما بشر يعقوب بنبوة يوسف، فكان يفضله على سائر أولاده، ويؤثره عليهم لذلك.

وإنَّمَا قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) بآثار تظهر عندهم، وإلا حقيقة المحبة لا تعرف..

وقوله: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): لم يعنوا ضلال الدِّين؛ إنما قالوا ذلك -واللَّه أعلم- إنا جماعة تقدر على دفع من يروم الضرر به، ويقصد قصد الشر بنفسه وماله، ونحن أولو قوة، بنا يقوم معاشه وأسبابه، فكيف يؤثر هَؤُلَاءِ علينا؟!... وقالوا ذلك؛ لما كانت له منافع من أنفسهم لم تكن تلك المنافع من يوسف وأخيه، وأبدًا إنما يؤثر المرء حب من له منافع من قبله، لا حبّ من لا منفعة له منه، فهو فيه في ضلال مبين؛ حيث يؤثر حب من لا منفعة له منه على حب من كانت له منه منافع وأمثاله، واللَّه أعلم.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} الآية. تفاوضوا فيما بينهم وأظهروا الحسد الذي كانوا يضمرونه لقرب منزلته عند أبيهم دونهم، وقالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ} يعنون عن صواب الرأي؛ لأنه كان أصغر منهم، وكان عندهم أن الأكبر أوْلى بتقديم المنزلة من الأصغر؛ ومع ذلك فإن الجماعة من البنين أوْلى بالمحبة من الواحد، وهو معنى قوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}، ومع أنهم كانوا أنفع له في تدبير أمر الدنيا لأنهم كانوا يقومون بأمواله ومواشيه، فذهبوا إلى أن اصطفاءه إياه بالمحبة دونهم وتقديمه عليهم ذهاب عن طريق الصواب...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عُرِّفُوا على ما سَتَرُوه من الحَسَدِ، ولم يحتالوا في إخراج ذلك من قلوبهم بالوقيعة في أبيهم حتى قالوا: {إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. ويقال لما اعترضوا بقلوبهم على أبيهم في تقديم يوسف في المحبة عاقبهم بأن أمهلهم حتى بسطوا في أبيهم لسانَ الوقيعة فوصفوه بلفظ الضلال، وإن كان المرادُ منه الذهابَ في حديث يوسف عليه السلام، ولمَّا حسدوا يوسف على تقديم أبيهم له لم يَرْضَ -سبحانه- حتى أَقَامَهم بين يدي يوسف عليه السلام، وخرُّوا له سُجَّداً ليْعلَموا أَنَّ الحسودَ لا يسود. ويقال أطولُ الناسِ حُزْنا مَنْ لاَقى الناسَ عن مرارةٍ، وأراد تأخيرَ مَنْ قَدَّمه اللَّهُ أو تقديمَ مَنْ أَخَّرَه اللَّهُ؛ فإخوةُ يوسف -عليه السلام- أرادوا أن يجعلوه في أسفل الجُبِّ فرفعه الله فوقَ السرير!

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يعني: أنه يفضلهما في المحبة علينا، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... وههنا سؤالات: السؤال الأول: إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد، ويورث الآفات، فلما كان يعقوب عليه السلام عالما بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضا الأسن والأعلم والأنفع أفضل، فلم قلب هذه القضية؟ والجواب: أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة، والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذورا فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم.

السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولا حقا من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه، وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله، وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم. والجواب: أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولا حقا من عند الله تعالى، إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالا مخصوصة بمجرد الاجتهاد، ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد، وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل. وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول: زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة، فليس لله علي فيه تكليف...

السؤال الثالث: أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين، وذلك مبالغة في الذم والطعن، ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر، لا سيما إذا كان الطاعن ولدا فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم. والجواب: المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما تقرر ذلك، ابتدأ بذكر الآيات الواقعة في ظرف هذا الكون فقال: {إذ قالوا} أي كان ذلك حين قال الإخوة بعد أن قص الرؤيا عليهم وسوّل لهم الشيطان -كما ظن يعقوب عليه الصلاة والسلام- مقسمين دلالة على غاية الاهتمام بهذا الكلام، وأنه مما حركهم غاية التحريك، أو هي لام الابتداء المؤكدة المحققة لمضمون الجملة {ليوسف وأخوه} أي شقيقه بنيامين {أحب} وحددا لأن أفعل ما يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرف أو يضف {إلى أبينا منا} أي يحبهما أكثر مما يحبنا؛ والحب: ميل يدعو إلى إرادة الخير والنفع للمحبوب بخلاف الشهوة، فإنها ميل النفس ومنازعتها إلى ما فيه لذتها {و} الحال أنا {نحن عصبة} أي أشداء في أنفسنا ويشد بعضنا بعضاً، وأما هما فصغيران لا كفاية عندهما؛ والعصبة من العشرة إلى الأربعين، فكأنه قيل: فكان ماذا؟ -على تقدير أن يكونا أحب إليه، فقالوا مؤكدين لأن حال أبيهما في الاستقامة والهداية داع إلى تكذيبهم: {إن أبانا لفي ضلال} أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك {مبين} حيث فضلهما علينا، والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد، لأنا في البنوة سواء، ولنا مزية تقتضي تفضيلنا، وهي أنا عصبة، لنا من النفع له والذب عنه والكفاية ما ليس لهما...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} أي أن في قصتهم لآيات في الوقت الذي ابتدؤوا فيه بقولهم جازمين مقسمين: ليوسف وأخوه الشقيق له واسمه بنيامين، أحب إلى أبينا منا كلنا {ونحن عصبة} أي يفضلهما علينا بمزيد المحبة على صغرهما وقلة غنائهما والحال إننا نحن عصبة عشرة رجال أقوياء أشداء معتصبون نقوم له بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والحماية والكفاية {إن أبانا لفي ضلال مبين} إنه لفي تيه من المحاباة لهما ضل فيه طريق العدل والمساواة ضلالا بينا لا يخفى على أحد، إذ يفضل غلامين ضعيفين من ولده لا يقومان له بخدمة نافعة، على العصبة أولي القوة والكسب والنجدة. وهذا الحكم منهم على أبيهم جهل مبين وخطأ كبير، لعل سببه اتهامهم إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل، فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات ولا سيما الإيماء منهن وهو الذي أضلهم عن غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم وكانا أصغر أولاده، فقد سئل والد بليغ: أي ولدك أحب إليك؟ قال صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يشفى، وفقيرهم حتى يغنى [وأشك في هذه الأخيرة]. ومن فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة والعدل واتقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم، ومنه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا، ومنه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق والتقوى والعلم والذكاء، وما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا، وما نهى يوسف عن قصة رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه، ولكن ما يفعل الإنسان بغريزته وقلبه وروحه؟ أيستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلا...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ترى حدثهم يوسف عن رؤياه كما يقول كتاب "العهد القديم "؟ إن السياق هنا يفيد أن لا. فهم يتحدثون عن إيثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم. أخيه الشقيق. ولو كانوا قد علموا برؤياه لجاء ذكرها على ألسنتهم، ولكانت أدعى إلى أن تلهج ألسنتهم بالحقد عليه. فما خافه يعقوب على يوسف لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر، وهو حقدهم عليه لإيثار أبيهم له. ولم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة، لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة، والتي تمهد لها ظروف حياته، وواقع أسرته، ومجيئه لأبيه على كبرة. وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء، وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر. كما كان الحال مع يوسف وأخيه، وإخوته من أمهات. (إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة).. أي ونحن مجموعة قوية تدفع وتنفع.. (إن أبانا لفي ضلال مبين).. إذ يؤثر غلاما وصبيا صغيرين على مجموعة الرجال النافعين الدافعين!...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذا ما أثار في نفوسهم الحقد، فقد كانوا عشرةً من أمّ، وكان يوسف وأخوه من أمٍّ أخرى، وربما كان ليعقوب بعض العاطفة المميّزة لهما، كنتيجةٍ لبعض الخصائص الروحية أو الأخلاقية التي يتمتعان بها، ولصغر سنهما الذي يجعلهما بحاجةٍ إلى الاحتضان العاطفي من جهة، وما يستثيره ذاك السن من عاطفةٍ حميمةٍ، تجعل الكبير يهفو إلى الصغير من جهة أخرى، ولكن الكبار عادةً لا يفهمون ذلك، لا سيما مع اختلاف الأمّ الذي يبعث على التعقيد في نفوس الأولاد تبعاً للتعقيد بين الأمهات، وكان هؤلاء يفكرون بالقضية وفق معيار التفوق العددي الذي يدفع إلى ترجيحهم على الأقل، أو انطلاقاً مما يوحيه العدد الكبير من قوة تتيح لهم تصحيح ما يعتبرونه خطأ في تمييز أبيهم في مشاعره الأبوية تجاه أولاده، الأمر الذي عبروا عنه بقولهم الذي أشار إليه الله في قوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلال مُّبِينٍ} مما نستوحي منه أنهم كانوا لا يحترمون شخصية النبي في أبيهم، وهو الذي لا ينطلق في سلوكه من عقدة ذاتية، بل من حالة عقلانيّة روحيّة لا تبتعد عن خط الرسالة في السلوك الذاتي، أو في السلوك العام، لأن دور النبيّ أن يكون القدوة في كل شيءٍ، لأنه يمثل الرسالة في حياته كما يمثلها في كلماته، من خلال التكامل بين الكلمة والفعل في حركة الرسالة والرسول. وقد يحدث ذلك للعديد من الأبناء الذين يستسلمون للعلاقة الطبيعية بين الأب وولده التي قد تتحرك في تفاصيل الحياة في أجواء التبدُّل الطبيعي في البيت العائليّ، فلا يشعرون بالهيبة تجاه الأب التي يشعر بها الآخرون. وربما قادهم ذلك إلى فقدان التأثُّر بالجوانب الآخرى من شخصية الأب، أو عدم الشعور بقدسيتها وعظمتها، فينعكس ذلك على نظرتهم إليه في مشاعره وسلوكه، بعيداً عن التعمُّق في طبيعة ذلك كله.