الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (29)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ألم تر} يا محمد {أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} يعني انتقاص كل واحد منهما من صاحبه...

{وسخر الشمس والقمر} لبني آدم {كل يجري إلى أجل} وهو الأجل ال {مسمى وأن الله بما تعملون} فيهما {خبير}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"ألَمْ تَرَ" يا محمد بعينك "أنّ اللّهَ يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ "يقول: يزيد من نقصان ساعات الليل في ساعات النهار، "وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ" يقول: يزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات اللّيل...

وقوله: "وَسَخّر الشّمْسَ والقَمَرَ، كُلّ يَجْرِي إلى أجَل مُسَمّى" يقول تعالى ذكره: وسخر الشمس والقمر لمصالح خلقه ومنافعهم، "كلّ يجري" يقول: كلّ ذلك يجري بأمره إلى وقت معلوم، وأجل محدود إذا بلغه، كوّرت الشمس والقمر... وقوله: "وَأنّ اللّهَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" يقول: وإن الله بأعمالكم أيها الناس من خير أو شرّ ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك، وخرج هذا الكلام خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به المشركون، وذلك أنه تعالى ذكره، نبّه بقوله: "أنّ اللّهَ يُولِجُ اللّيْلَ في النّهارِ، وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ" على موضع حجته من جهل عظمته، وأشرك في عبادته معه غيره، يدلّ على ذلك قوله: "ذلكَ بأنّ اللّهَ هُوَ الحَقّ، وأنّ ما يَدْعُونَ منْ دُونهِ الباطِلُ".

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر} يذكرهم قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره، وفيه دلالة البعث.

أما قدرته فهي لما أدخل الليل في النهار والنهار في الليل، ثم حفظهما على حد واحد وعلى ميزان واحد على غير تفاوت يقع في ذلك ولا يتغير. فمن قدر على ذلك لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.

وكذلك ما ذكر من تسخير الشمس والقمر وما يقطعان في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة خمس مئة عام ما لا يتصور ذلك في أوهام الخلق، ولا في تقديرهم قطع ذلك المقدار من السير في مثل تلك المدة.

ودل إنشاء أحدهما وإحداثه بعد ما ذهب الآخر برمته وكليته حتى لا يبقى له أثر على أنه قادر على الإحياء بعد الموت، وبعدما ذهب أثره.

ففي ذلك دلائل من وجوه:

أحدها: دلالة قدرته حين أدخل أحدهما في الآخر، وحفظهما كذلك على حد واحد وتقدير واحد على غير تغيير وتفاوت يقع في ذلك.

دل ذلك على قدرته وعلمه وتدبيره. ودل إنشاء كل واحد منهما بعد ما ذهب الآخر إلى القدرة على البعث.

وقوله تعالى: {كل يجري إلى أجل مسمى} إلى الوقت الذي جعل له، لا يتقدم، ولا يتأخر {وأن الله بما تعملون خبير} ظاهرا وباطنا. هذا وعيد ليكونوا أبدا خائفين حذرين متيقظين، والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما قرر هذه الآية الخارقة، دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرتين، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض، وإبطال قولهم: {ما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] بأنه، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، أو عاماً كل عاقل، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال: {ألم تر} أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب، ويمكن أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره.

ولما كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه، فكان إنكاره إنكارً لهذا، نبه على ذلك بالتأكيد فقال: {أن الله} أي بجلاله وعز كماله {يولج} أي يدخل إدخالاً لا مرية فيه {الليل في النهار} فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه، فإذا النهار قد عم الأرض كلها أسرع من اللمح {ويولج النهار} أي يدخله كذلك {في الليل} فيخفي حتى لا يبقى له أثر، فإذا الليل قد طبق الآفاق: مشارقها ومغاربها في مثل الظرف، فيميز سبحانه كلاً منهما -وهو معنى من المعاني- من الآخر بعد اضمحلاله، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة، عبر فيه بالمضارع.

ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفا على طريق معلوم بقدر لا يختلف، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال: {وسخر الشمس} آية للنهار بدخول الليل فيه {والقمر} آية لليل كذلك! ثم استأنف ما سخرا فيه فقال: {كل} أي منهما {يجري} أي في فلكه سائراً متمادياً و بالغاً ومنتهياً.

ولما كان محط مقصود السورة الحكمة، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير، والمد في الإبداع والتسيير، كان الموضع لحرف الغاية فقال: {إلى أجل مسمى} لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص، هذا يقطعها في الشهر مرة وتلك في السنة مرة، لا يقدر واحد منهما أن يتعدى طوره، ولا أن ينقص دوره، ولا أن يغير سيره.

{بما تعملون} أي في كل وقت على سبيل التجدد {خبير} لا يعجزه شيء منه ولا يخفى عنه، لأنه الخالق له كله دقه وجله.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وما يقدر على هذا التسخير إلا الله القدير الخبير. وهو الذي يقدر ويعلم أمد جريانهما إلى الوقت المعلوم. ومع حقيقة إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل؛ وحقيقة تسخير الشمس والقمر -وهما حقيقتان كونيتان بارزتان- حقيقة أخرى مثلهما يقررها معهما في آية واحدة: (وأن الله بما تعملون خبير).. وهكذا تبرز هذه الحقيقة الغيبية، إلى جانب الحقائق الكونية. حقيقة مثلها، ذات ارتباط بها وثيق...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والخطاب لغير معين، والمقصود به المشركون بقرينة {وأن الله بما تعملون خبير}.

والرؤية علْمية، والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم.

والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشَى ظُلمته تلك الأنوار النهارية، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تُلازم عملاً متماثلاً.

وتنوين {كلٌّ} هو المسمى تنوين العوض عن المضاف إليه، والتقدير: كلٌّ من الشمس والقمر يجري إلى أجل.

والجري: المشي السريع؛ استعير لانتقال الشمس في فلكها وانتقال الأرض حول الشمس وانتقال القمر حول الأرض، تشبيهاً بالمشي السريع لأجل شسوع المسافات التي تقطع في خلال ذلك.

وزيادة قوله {إلى أجل مسمى} للإشارة إلى أن لهذا النظام الشمسي أمداً يعلمه الله فإذا انتهى ذلك الأمد بطل ذلك التحرك والتنقل، وهو الوقت الذي يؤذن بانقراض العالم؛ فهذا تذكير بوقت البعث.