نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (29)

ولما قرر هذه الآية الخارقة ، دل عليها بأمر محسوس{[54189]} يشاهد كل يوم مرتين ، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض ، وإبطال قولهم :{ ما يهلكنا إلا الدهر }[ الجاثية : 24 ] بأنه ، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك ، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك{[54190]} حق فهمه غيره ، أو عاماً كل عاقل ، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال : { ألم تر } أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب ، ويمكن أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره .

ولما كان {[54191]}البعث مثل{[54192]} إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه ، فكان إنكاره{[54193]} إنكارً لهذا ، نبه على ذلك بالتأكيد{[54194]} فقال : { أن الله } أي{[54195]} بجلاله وعز كماله { يولج } أي يدخل{[54196]} إدخالاً لا مرية فيه { الليل في النهار } فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه ، فإذا النهار قد{[54197]} عم الأرض كلها أسرع من اللمح { ويولج النهار } أي يدخله كذلك { في الليل } فيخفي حتى لا يبقى له أثر ، فإذا الليل قد طبق الآفاق{[54198]} : مشارقها ومغاربها في مثل الظرف ، فيميز سبحانه كلاً منهما - وهو معنى من المعاني - من الآخر بعد إضمحلاله ، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره ، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة ، عبر فيه{[54199]} بالمضارع .

ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفا على طريق معلوم بقدر لا يختلف ، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه {[54200]}فقال : { وسخر الشمس } آية للنهار بدخول الليل فيه { والقمر } آية لليل كذلك ! ثم استأنف ما سخرا فيه{[54201]} فقال : { كل } أي منهما { يجري } أي{[54202]} في فلكه سائراً متمادياً و{[54203]} بالغاً ومنتهياً .

ولما كان محط مقصود السورة الحكمة ، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير ، والمد في الإبداع والتسيير ، كان الموضع{[54204]} لحرف الغاية فقال : { إلى أجل مسمى } لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص ، هذا يقطعها في الشهر{[54205]} مرة وتلك في السنة مرة ، لا يقدرواحد منهما أن يتعدى طوره ، ولا أن ينقص دوره ، ولا أن يغير سيره .

ولما بان بهذا التدبير المحكم ، في هذا{[54206]} الأعظم ، شمول علمه وتمام قدرته ، عطف على{[54207]} " أن الله " قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها : { وأن الله } أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها ، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه{[54208]} بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة ، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً{[54209]} فقال : { بما تعملون } أي{[54210]} في كل وقت على سبيل التجدد { خبير * } لا يعجزه شيء منه{[54211]} ولا يخفى عنه ، لأنه الخالق له كله دقه وجله ، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه ، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً ، وكم{[54212]} أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد ، فكان ما قاله كما قاله ، لم{[54213]} يقدر أحد منهم{[54214]} أن يخالف في شيء مما قاله ، فتمت كلماته ، وصدقت إشاراته وعباراته ، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر ، وكل منهم لا ينفك في كل لحظة عن{[54215]} عمل من حركة وسكون ، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في كل{[54216]} أن دائماً ما تعاقب الملوان ، وبقي الزمان ، لا يشغله شأن منه عن شأن ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا{[54217]} بهذا في غاية العلم به{[54218]} . لما ذكر من دليله ، ولما شاهدوا من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين ، منهم البعيد جداً والمتوسط والقريب ، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك ، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب صلى الله عليه وسلم ، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى ، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما أطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة .


[54189]:زيد من ظ وم ومد.
[54190]:سقط من ظ.
[54191]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المبعث قبل.
[54192]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المبعث قبل.
[54193]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: إشارة.
[54194]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: التأكيد.
[54195]:زيد من ظ وم ومد.
[54196]:زيد في م: أي.
[54197]:زيد من ظ وم ومد.
[54198]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالآفاق.
[54199]:سقط من ظ.
[54200]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[54201]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[54202]:زيد من م ومد.
[54203]:زيد من ظ وم ومد.
[54204]:من م ومد، وفي الأصل وظ: الوضع.
[54205]:زيد من ظ وم ومد.
[54206]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: هذه.
[54207]:زيدت الواو في الأصل، ولم تكن في ظ وم ومد فحذفناها.
[54208]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: العلم.
[54209]:زيد من ظ ومد.
[54210]:سقط من ظ وم ومد.
[54211]:زيد من ظ ومد.
[54212]:في ظ: كما.
[54213]:من م ومد، وفي الأصل وظ: لا.
[54214]:زيد من ظ وم ومد.
[54215]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: من.
[54216]:زيد من ظ وم ومد.
[54217]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: حواطوا.
[54218]:زيد من ظ وم ومد.