تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم}، يعني اليهود والنصارى، يقول الله لكفار مكة: {فقد جاءكم بينة من ربكم}، يعني بيان من ربكم القرآن، {و} هو {وهدى} من الضلالة {ورحمة} من العذاب لقوم يؤمنون، فكذبوا به، فنزلت: {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله}، يعني بالقرآن، {وصدف عنها}، يعني وأعرض عن آيات القرآن، فلم يؤمن بها، ثم أوعدهم الله، فقال: {سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا}، يعني يعرضون عن إيمان بالقرآن، {سوء العذاب}، يعني شدة العذاب، {بما كانوا يصدفون}، يعني بما كانوا يعرضون عن إيمان بالقرآن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهذا كتاب أنزلناه مبارك، لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، أو لئلا يقولوا:"لَوْ أنّا أنْزِلَ عَلَيْنا الكِتاب" كما أنزل على هاتين الطائفتين من قبلنا، فأمرنا فيه ونهينا، وبَيّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه. "لَكُنّا أهْدَى مِنْهُمْ": أي لكنا أشدّ استقامة على طريق الحقّ واتباعا للكتاب، وأحسن عملاً بما فيه من الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا. يقول الله: "فَقَدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ "يقول: فقد جاءكم كتاب بلسانكم عربيّ مبين، حجة عليكم واضحة بينة من ربكم. "وَهُدًى" يقول: وبيان للحقّ، وفرقان بين الصواب والخطأ. "وَرَحْمَةً" لمن عمل به واتبعه... "فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذّبَ بآياتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجزْي الّذِينَ يَصْدِفُونَ" يقول جلّ ثناؤه: فمن أخطأُ فعلاً وأشدّ عدوانا منكم أيها المشركون، المكذّبون بحجج الله وأدلته وهي آياته. "وَصَدَفَ عَنْها" يقول: وأعرض عنها بعد ما أتته، فلم يؤمن بها ولم يصدّق بحقيقتها. وأخرج جلّ ثناؤه الخبر بقوله: "فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذّبَ بآياتِ اللّهِ" مخرج الخبر عن الغائب، والمعنّى به المخاطبون به من مشركي قريش...
وقوله: "سَنَجزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الَعَذَابِ" يقول: سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها ولا يتعرّفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله وحقية نبوّة نبيه وصدق ما جاءهم به من عند ربهم "سُوءَ العَذَاب" يقول: شديد العقاب، وذلك عذاب النار التي أعدّها الله لكفرة خلقه به. "بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ" يقول: يفعل الله ذلك بهم، جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} لحدّة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأسجاعها وأمثالها، على أنا أمّيون. وقرىء: «أن يقولوا» أو يقولوا، بالياء {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} تبكيت لهم، وهو على قراءة من قرأ: «يقولوا» على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات. والمعنى: إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينة من ربكم، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله} بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك {وَصَدَفَ عَنْهَا} الناس فضلّ وأضلّ {سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنا سُوء العذاب} كقوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} [النحل: 88].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {أو تقولوا} جملة معطوفة على الجملة الأولى، وهي في غرضها من الاحتجاج على الكفار وقطع تعلقهم في الآخرة بأن الكتب لما أنزلت على غيرهم وأنهم غافلون عن الدراسة والنظر في الشرع وأنهم لو نزل عليهم كتاب لكانوا أسرع إلى الهدى من الناس كلهم، فقيل لهم: قد جاءكم بيان من الله وهدى ورحمة. ولما تقرر أن البينة قد جاءت والحجة قد قامت، حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله تعالى {فمن أظلم ممن كذب} بهذه الآيات البينات. {وصدف} معناه حاد وراغ وأعرض...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} لأننا أذكى أفئدة وأعلى همة وأمضى عزيمة، وقد قالوا هذا في الدنيا كما حكاه تعالى عنهم في آخر سورة فاطر بقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله...} (فاطر 42- 43) وهذا التأكيد بالقسم مبني على اعتقادهم أنهم أكمل البشر فطرة وأعلاهم استعداد لكل فضيلة وكان اعتقادا راسخا في عقولهم متمكنا من وجدانهم ومن أدلته ما رواه التاريخ لنا من المفاخرات بين بعض العرب والفرس.
وإذا كانت قبائل العرب كلها تعتقد أن شعبهم أزكى من جميع الأعاجم فطرة وأدنى أفئدة وأعز أنفسا وأكمل عقولا وأفهاما وأفصح ألسنة وأبلغ بيانا، فما القول بقريش التي دانت لها العرب واعترفت بفضلها على غيرها منهم؟ ولكن جمهور سادة قريش وكبراؤها قد استكبروا بذلك وعتوا عتوا كبيرا، حتى كذبوا بأعظم ما فضل الله به جيلهم وقومهم على جميع الأجيال والأقوام بالحق وهو القرآن وصدوا عنه وصدفوا عن آياته، فكان إقسامهم أنهم لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم المجاورة لهم حجة عليهم وإن صدق على غيرهم من قريش ومن سائر العرب الذين اهتدوا بالكتاب فسادوا به جميع الأمم، وكانوا أئمة لها في دينها ودنياها ما كانوا مهتدين به معتصمين بحبله، وإذا كان ذلك القسم صادرا عن عقيدة راسخة فلا جرم أنه لو لم يأتهم النذير بهذا الكتاب المنير لاعتذروا في الآخرة بهذا العذر على أن المعاندين منهم ظلوا يطالبون النذير الذي جاءهم به بمثل ما أتى به من قبله من الآيات الكونية وهو أي الكتاب أقوى منها دلالة على النبوة لأن دلالته علمية عقلية ودلالتها وضعية أو عادية على أنها تشتبه بالسحر والشعوذة وسائر الغرائب الصناعية، وقد وضحنا الفرق بينهما في غير موضع من تفسير هذه السورة الأنعام واعتبر هنا بقوله تعالى في آخر سورة طه {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه؟ أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولولا أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} (طه 133- 134).
{فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة} هذا هو الجواب القاطع لكل تعلة وعذر فإن القرآن بينة عظيمة كاملة من وجوه متعددة فتنكير البينة وما بعدها للتعظيم، إذ البينة ما تبين به الحق وهو مبين للحق في العقائد بالحجج والدلائل وفي الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام بما تصلح به أمور البشر وشؤون الاجتماع وهدى كامل لمن تدبره وتلاه حق تلاوته، فإنه يجذبه ببيانه وبلاغته إلى الحق الذي قرره وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه، ورحمة عامة للبشر الذين تنتشر فيهم هدايته. وتنفذ فيهم شريعته. حتى الخاضعين لأحكامها من غير المؤمنين به فإنهم يكونون آمنين في ظلها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. أحرارا في عقائدهم وعباداتهم مساوين للمؤمنين بها في حقوقهم ومعاملاتهم. عائشين في وسط خال من الفواحش والمنكرات. التي تفسد الأخلاق وتولد الأمراض. وأما المؤمنون به فهو رحمة لهم في الدنيا والآخرة جميعا هكذا كان وهكذا يكون. وإنما أنزلت هذه الآية في هذه السورة والمؤمنون قليلون مضطهدون. والجماهير مكذبون والرؤساء يصدون عن الكتاب ويصدفون.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} الاستفهام هنا إنكاري أي وإذا كانت آيات الله مشتملة على ما ذكر من البينة الكاملة والهداية الشاملة والرحمة الخاصة والعامة. فلا أحد أظلم ممن كذب بها وأعرض عنها ولم يكتف بصدوفه عنها. وحرمان نفسه منها. بل صدف الناس أي صرفهم وردهم أيضا كما كان يفعل كبراء مجرمي قريش بمكة في أثناء نزول هذه السورة. كانوا يصدفون العرب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويحولون بينه وبينهم لئلا يسمعوا منه القرآن فينجذبوا إلى الإيمان، كما قال: {وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون} (الأنعام 26) وتقدم في أوائل هذه السورة. فصدف بمعنى صد، واستعمل مثله لازما ومتعديا، وفي معناهما الصرف والصدع، ولا مانع عندي من استعمال صدف هنا لازما ومتعديا كما كانت حال أولئك الكبراء من قريش وسائر قبائل العرب الذين اقتدوا بهم في صد الناس عن سماع القرآن ومنع الرسول صلى الله عليه وسلم من تبليغ الدعوة، وهذا أقرب من استعمال المشترك في معنيين أو أكثر من معانيه إذا كانت العبارة تحتمل ذلك إذ لم يعد منه... على أن بين اللازم والمتعدي تلازما في هذا المقام فإن الصاد لغيره عن شيء يكرهه ويعادي الداعي إليه والقائم به يكون هو أشد صدودا وإعراضا عنه. وإنما ينهى عن الشيء ويصد عنه غيره من يحبه ويأخذ به إذا كان مرائيا أو خادعا لمن ينهاه ويصرفه عنه كالوعاظ المرائين، والتجار الغاشين، ومن الصد اللازم قوله تعالى في سورة النساء {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} (النساء 61) ومن المتعدي قوله تعالى في أول سورة محمد أو القتال {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} (محمد 1).
{سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} أي سنجزي الذين يصدفون الناس ويردونهم عن آياتنا والاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يجرون عليه من الصدف عنها والاستمرار عليه فإنهم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق وحالوا بينهم وبين سبب الهداية. وقد وضع الموصول موضع الضمير فقال سنجزي الذين يصدفون ولم يقل سنجزيهم ليعلم أن هذا الوعيد إنما هو على الصدف الذي هو قطع طريق الحق على المستعدين لاتباعه، لأنهم بهذا كانوا أظلم الناس كما دل عليه الاستفهام الإنكاري في أول الآية لا على مجرد ظلمهم لأنفسهم بالتكذيب، وقد أكد ذلك بالتصريح بالسبب ولم يكتف بدلالة صلة الموصول عليه فهو بمعنى قوله تعالى في سورة النحل {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون} (النحل 88) أي زدناهم عذابا سيئا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم في الأرض بهذا الصد عن الحق. وقال في الآية التي بعد هذه {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (النحل 79) فهاتان الآيتان من سورة النحل بمعنى آية سورة الأنعام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون).. إن التعبير القرآني يستخدم مثل هذا اللفظ، المنقول في اللغة من حالة حسية إلى حالة معنوية ليستصحب في الحس أصل المعنى.. فيستخدم هنا لفظ "يصدف "وقد عرفنا أنه من صدف البعير إذا مال بخفه ولم يعتدل لمرض فيه!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} تدرّج في الاعتلال جاء على ما تكنّه نفوس العرب من شفوفهم بأنفسهم على بقيّة الأمم، وتطلّعهم إلى معالي الأمور، وإدلالهم بفطنتهم وفصاحة ألسنتهم وحِدّة أذهانهم وسرعة تلقّيهم، وهم أخلقاء بذلك كلّه. وفي الإعراب عن هذا الاعتلال منهم تلقين لهم، وإيقاظ لأفهامهم أن يغتبطوا بالقرآن، ويفهموا ما يعود عليهم به من الفضل والشّرف بين الأمم، كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10]. وقد كان الذين اتَّبعوا القرآن أهدى من اليهود والنّصارى ببون بعيد الدّرجات. ولقد تهيّأ المقام بعد هذا التّنبيه العجيب لفاء الفصيحة في قوله: {فقد جاءكم بينة من ربكم} وتقديرها: فإذا كنتم تَقولون ذلك ويهجس في نفوسكم فقد جاءكم بيانٌ من ربِّكم يعني القرآن، يدفع عنكم ما تستشعرون من الانحطاط عن أهل الكتاب. والبيّنة ما به البيان وظهور الحقّ. فالقرآن بيّنة على أنَّه من عند الله لإعجازه بلغاء العرب، وهو هدي بما اشتمل عليه من الإرشاد إلى طرق الخير، وهو رحمة بما جاء به من شريعة سمحة لا حرج فيها، فهي مقيمة لصلاح الأمّة مع التّيسير.
وهذا من أعجب التّشريع وهو أدلّ على أنَّه من أمر العليم بكلّ شيء. وتفرّع عن هذا الإعذار لهم الإخبار عنهم بأنَّهم لا أظلم منهم، لأنَّهم كذّبوا وأعرضوا. فالفاء في قوله: {فمن أظلم} للتّفريع. والاستفهامُ إنكاري، أي لا أحد أظلم من الذين كذّبوا بآيات الله. و (مَن) في {ممن كذب بآيات الله} موصولة وما صدقُها المخاطبون من قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين}. والظّلم هنا يشمل ظلم نفوسهم، إذ زجُّوا بها إلى العذاب في الآخرة وخسران الدّنيا، وظلمَ الرّسول صلى الله عليه وسلم إذ كذّبوه، وما هو بأهل التّكذيب، وظلم الله إذ كذّبوا بآياته وأنكروا نعمته، وظلموا النّاس بصدّهم عن الإسلام بالقول والفعل. وقد جيء باسم الموصول لتدلّ الصّلة على تعليل الحكم ووجه بناء الخبر، لأنّ من ثبَت له مضمون تلك الصّلة كان حقيقا بأنَّه لا أظلم منه. ومعنى {صَدَف} أعرض هُو، ويطلق بمعنى صَرف غيره كما في « القاموس». وأصله التّعدية إلى مفعول بنفسه وإلى الثّاني ب {عن} يقال: صدفتُ فلاناً عن كذا، كما يقال: صرفتُه، وقد شاع تنزيله منزلة اللاّزم حتّى غلب عدمُ ظهور المفعول به، يقال: صدَف عن كذا بمعنى أعرض وقد تقدّم عند قوله تعالى: {انظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصدفون} في هذه السّورة (46)، وقدّره في هنا متعدّياً لأنَّه أنسب بكونهم أظلم النّاس تكثيراً في وجوه اعتدائهم، ولم أر ذلك لِغيره نظراً لقوله تعالى: {سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب} إذ يناسبه معنى المتعدّي لأنّ الجزاء على أعراضهم وعلى صدّهم النّاس عن الآيات، فإنّ تكذيبهم بالآيات يتضمّن إعْراضهم عنها فناسب أن يكون صَدْفهم هو صرفَهم النّاس. و {سوء العذاب} من إضافة الصّفة إلى الموصوف، وسوءه أشدّه وأقواه، وقد بيّن ذلك قوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون} [النحل: 88]. فقوله: {عذاباً فوق العذاب} هو مضاعفة العذاب، أي شدّته. ويحتمل أنَّه أريد به عذاب الدّنيا بالقتل والذلّ، وعذاب الآخرة، وإنَّما كان ذلك جزاءهم لأنَّهم لم يكذِّبوا تكذيباً عن دعوة مجرّدة، بل كذّبوا بعد أن جاءتهم الآيات البيّنات. و (ما) مَصدريّة: أي بصدفهم وإعراضهم عن الآيات إعراضاً مستمراً لم يدعوا راغبه ف {كان} هنا مفيدة للاستمرار مثل: {وكان الله غفوراً رحيماً} [النساء: 96].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
..وقد وصف سبحانه الكتاب بأربعة أوصاف. أولها: أنه بينة: أي هو بين في ذاته وفيما دل عليه من شرائع بينها وفصلها وأحكم بيانها. ثانيها: بأنه من ربكم الذي خلقكم ويعرف ما يصلح أموركم وينفعكم في معاشكم ومعادكم. ثالثها: أنه فيه الهداية إلى الصراط المستقيم وإصلاح نفوسكم، وهداية جمعكم. ورابعها: أن فيه الرحمة بكم، لأن فيه الشريعة المحكمة وهي رحمة للعالمين ولأنه هو نبي الرحمة، قد جاءكم القرآن بما تطلبون أو بما تتمنون أو بما يكون فيه ادعاؤكم فهل آمنتم؟ كلا لم يؤمنوا وكان كلامهم غرورا أو تغريرا، وهو ضلال في كل أحواله، بل كذبوا بآيات الله، وانصرفوا عنها، ودعوا الناس للانصراف عنها، فضلوا وأضلوا وأشاعوا فساد الفكر والاعتقاد بين الناس وهم بهذا أشد الظالمين ولذا قال تعالى: (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها)... وهكذا نرى المشركين في ضلال مستر، فهم يضلون في أقوالهم وأفعالهم وشركهم وقانا الله شر مآلهم...