67- الله - وحده - الذي خلقكم - يا بني آدم - من تراب ، ثم حول هذا التراب نطفة ، ثم حول هذه النطفة إلى قطعة دم جامدة ، ثم يُخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ، ثم يمد في آجالكم لتبلغوا سن الكمال في القوة والعقل ، ثم يطيل أعماركم لتكونوا شيوخاً ، ومنكم من يُتوفي قبل سن الشباب أو الشيخوخة ، وخلقكم الله على هذا النمط لتبلغوا وقتاً مسمى عنده وهو يوم البعث ، ولكي تعقلوا ما في هذا التنقل في الأطوار من حكم وعبر{[199]} .
ثم بين تعالى أمر الوحدانية والألوهية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه ، فأوله خلق آدم عليه السلام من تراب من طين لازب{[10021]} ، فجعل البشر من التراب كما كان منسلاً من الخلوق من التراب . وقوله تعالى : { من نطفة } إشارة إلى التناسل من آدم فمن بعده . والنطفة [ هي ]{[10022]} : الماء الذي خلق المرء منه . والعلقة : الدم الذي يصير من النطفة . والطفل هنا : اسم جنس . وبلوغ الأشد : اختلف فيه : فقيل ثلاثون ، وقيل ستة وثلاثون ، وقيل أربعون : وقيل ستة وأربعون ، وقيل عشرون ، وقيل ثمانية عشر ، وقيل خمسة عشر ، وهذه الأقوال الأخيرة ضعيفة في الأشد .
وقوله تعالى : { ومنكم من يتوفى من قبل } عبارة تتردد في الأدراج المذكورة كلها ، فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلاً ، وآخرون قبل الأشد ، وآخرون قبل الشيخوخة .
وقوله : { ولتبلغوا أجلاً مسمى } أي هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة ليبلغ كل واحد منها أجلاً مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه ولتكون معتبراً . { ولعلكم } أيها البشر { تعقلون } الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى .
استئناف رابع بعد اسئتناف جملة { هُوَ الحَيُّ } [ غافر : 65 ] وما تفرع عليها ، وكلها ناشىء بعضه عن بعض . وهذا الامتنان بنعمة الإِيجاد وهو نعمة لأن المَوجُود شرف والمعدوم لا عناية به . وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع . وتقدم الكلام على أطوار خَلق الإنسان في سورة الحج ، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر .
والطفل : اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع ، للمذكر والمؤنث قال تعالى : { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } [ النور : 31 ] وقد يطابق فيقال : طفل وطفلان وأطفال .
واللامات في قوله : { ثُمَّ لِتَبْلُغوا أشُدَّكُم } وما عطف عليه ب ( ثم ) متعلقات بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم ، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم ، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى ( إلى ) لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها ، وتقدم نظيره في سورة الحج .
وقوله : { ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى } عطف على { لِتَكُونُوا شُيُوخاً } أي للشيخوخة غاية وهي الأجلُ المسمّى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة . وأما الأجل المقدّر للذين يهلِكون قبل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله : { وَمِنكم مَّن يُتَوفَّى مِن قَبْلُ } أن من قبل بعض هذه الأطوار ، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلاً وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشدّ ، أو يتوفّى قبل أن يكون شيخاً . ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف ب ( ثم ) كما عطفت المجرورات الأخرى ، والمعنى : أن الله قدّر انقراض الأجيال وخَلَقَهَا بأجيال أخرى ، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته ، ولمّا خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالماً بأن من جملة الغايات في ذلك الخلقِ أن يَبلغوا أجلاً .
وبُني { قبل } على الضم على نية معنى المضاف إليه ، أي من قبل ما ذُكر . والأشُدّ : القوة في البدن ، وهو ما بين ثمانَ عشرةَ سنةً إلى الثلاثين وتقدم في سورة يوسف [ 22 ] .
وشيوخ : جمع شيخ ، وهو مَن بلغ سِن الخمسين إلى الثمانين ، وتقدم عند قوله تعالى : { وهذا بعلي شيخاً } في سورة [ هود : 72 ] . ويجوز في ( شيوخ ) ضم الشين . وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحَفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف . ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة ، والكسائي .
وقوله : { ولَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ } عطف على { ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى } أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإِنسان على الحالة المبينة ، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخَلْقَ البديع ، وعلى إنفراده بالإِلهية ، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإِلهية ، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أُريد منه ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل . ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل { تعقلون } بمفعول ولا بمجرور لأنه نزل منزلة اللازم ، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل ذلك الخلق العجيب علة لأمور كثيرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي خلقكم من تراب} وذلك أن كفار مكة كذبوا بالبعث، فأخبرهم الله عن بدء خلقهم ليعتبروا في البعث، فقال تعالى: {هو الذي خلقكم من تراب} يعني آدم عليه السلام.
{ثم من نطفة} يعني ذريته {ثم من علقة} يعني مثل الدم.
{ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم} يعني ثماني عشرة سنة، فهو في الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الأربعين سنة.
{ثم لتكونوا شيوخا} يعني لكي تكونوا شيوخا {ومنكم من يتوفى من قبل} أن يكون شيخا.
{ولتبلغوا أجلا مسمى} يعني الشيخ والشاب جميعا {ولعلكم} يعني ولكي.
{تعقلون}: لكي تعقلوا آثار ربكم في خلقكم بأنه قادر على أن يبعثكم كما خلقكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره آمرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتنبيه مشركي قومه على حججه عليهم في وحدانيته: قل يا محمد لقومك: أُمرت أن أسلم لربّ العالمين الذي صفته هذه الصفات، وهي أنه خلق أباكم آدم "منْ تُرَابٍ"، "ثُمّ "خلقكم "مِنْ نُطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ" بعد أن كنتم نطفا "ثُمّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً" من بطون أمهاتكم صغارا، "ثُمّ لِتَبْلُغُوا أشُدّكُمْ"، فتتكامل قواكم، ويتناهى شبابكم، وتمام خلقكم شيوخا.
"وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ" أن يبلغ الشيخوخة.
"وَلِتَبْلُغُوا أجَلاً مُسَمًى" يقول: ولتبلغوا ميقاتا مؤقتا لحياتكم، وأجلاً محدودا لا تجاوزونه، ولا تتقدمون قبله.
"وَلَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ" يقول: وكي تعقلوا حجج الله عليكم بذلك، وتتدبروا آياته فتعرفوا بها أنه لا إله غيره فعل ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} يذكر لهم الوجوه التي بها يوصل إلى معرفة شكر ما أنعم عليهم، يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي خلق أصلكم من تراب {ثم من نطفة} أي خلقكم من نطفة، يذكر لهم هذا ليُعلم خلقه إياهم من تراب؛ أعني خلق أصلهم ليس باستعانة منه بذلك التراب؛ لأنه لو كان على الاستعانة منه لكان لا معنى لخلق أنفسهم من الماء على الصورة التي خلق من تراب وعلى جنسه؛ إذ ليس في الماء من آثار التراب شيء، ولا في الماء والنطفة من آثار العلقة شيء، ولا في العلقة من آثار الطفوليّة شيء من اللحم والعظم والجلد والشعر وغير ذلك؛ ليس في التراب معنى الماء، ولا في الماء معنى التراب. ولو كان على الاستعانة بذلك لكان المخلوق من أحدهما لا يكون مثل المخلوق من الآخر في تركيبه وتصويره، وهما يختلفان في نفسيهما. وكذلك ما ذكر من تقلّبه من حال إلى حال وتبديله من نوع إلى نوع، وليس في كل حال تقلّب إليها من الحال التي كانت شيء، ولا من شبهها، ليعلم أن كل ذلك إنما كان بقدرته ذاتية وعلم ذاتي وتدبير ذاتيّ لا باستعانة شيء مما ذكر ولا سبب له في ذلك. ولكن كان بمعنى جعل فيه؛ كان ذلك كذلك بوجود ذلك المعنى.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي تبلغوا حتى يشتد كل شيء منه من البنية والعقل وغير ذلك.
اعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس، أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه الآية أربعة: الليل والنهار والأرض والسماء، وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين:
أحدها: الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة، والمذكور هاهنا منها ثلاثة أنواع: الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات.
وأما القسم الثاني: وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال: {هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة} فقيل المراد آدم، وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان، فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبات إنما يكون من التراب والماء، فثبت أن كل إنسان فهو متكون من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم، فالله تعالى ترك ذكرها هاهنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الآيات.
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب: أولها: كونه طفلا، وثانيها: أن يبلغ أشده، وثالثها: الشيخوخة. وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل، وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء والنماء وهو المسمى بالطفولية
والمرتبة الثانية: أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف، وهذه المرتبة هي المراد من قوله {لتبلغوا أشدكم}.
والمرتبة الثالثة: أن يتراجع ويظهر فيه أثر من آثار الضعف والنقص، وهذه المرتبة هي المراد من قوله {ثم لتكونوا شيوخا}.
وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التقسيم لا تزيد على هذه الثلاثة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعدما استعرض آياته في الآفاق. هي آية الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة؛ وليتخذ من هذه الحياة مقدمة لتقرير حقيقة الحياة كلها بين يدي الله.
هذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان؛ لأنه كان قبل وجود الإنسان. وفيها ما يشاهده ويراقبه. ولكن هذا إنما تم حديثاً بعد نزول هذا القرآن بقرون! فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان. والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض. ومنها الحياة الإنسانية. ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة.
وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة، واتحادهما، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة.. وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة: مرحلة الطفولة ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين. ثم الشيخوخة. وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف.
متابعة رحلة الجنين. ورحلة الوليد. وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير، مما للعقل فيه دور كبير.. ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقاً. وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص. ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرناً أمر يستوقف النظر. ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه. ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي مرحلة من مراحل الرشد العقلي. وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته. فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر.. فيحسون.. ثم يستجيبون أو لا يستجيبون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف رابع بعد اسئتناف جملة {هُوَ الحَيُّ} وما تفرع عليها، وكلها ناشئ بعضه عن بعض. وهذا الامتنان بنعمة الإِيجاد وهو نعمة؛ لأن المَوجُود شرف والمعدوم لا عناية به. وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع.
والطفل: اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع، للمذكر والمؤنث قال تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} [النور: 31] وقد يطابق فيقال: طفل وطفلان وأطفال.
واللامات في قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغوا أشُدَّكُم} وما عطف عليه ب (ثم) متعلقات بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى (إلى) لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها، وتقدم نظيره في سورة الحج.
{ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى} عطف على {لِتَكُونُوا شُيُوخاً} أي للشيخوخة غاية وهي الأجلُ المسمّى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة. وأما الأجل المقدّر للذين يهلِكون قبل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله: {وَمِنكم مَّن يُتَوفَّى مِن قَبْلُ} أن من قبل بعض هذه الأطوار.
ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف ب (ثم) كما عطفت المجرورات الأخرى، والمعنى: أن الله قدّر انقراض الأجيال وخَلَقَهَا بأجيال أخرى، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته ولمّا خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالماً بأن من جملة الغايات في ذلك الخلقِ أن يَبلغوا أجلاً.
وشيوخ: جمع شيخ، وهو مَن بلغ سِن الخمسين إلى الثمانين، وتقدم عند قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخاً} في سورة [هود: 72]. ويجوز في (شيوخ) ضم الشين. وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحَفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف. ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة، والكسائي.
{ولَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ} عطف على {ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى} أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإِنسان على الحالة المبينة، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخَلْقَ البديع، وعلى إنفراده بالإِلهية، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإِلهية، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أُريد منه، ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل. ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل {تعقلون} بمفعول ولا بمجرور؛ لأنه نزل منزلة اللازم، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل ذلك الخلق العجيب علة لأمور كثيرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الطريف أنّ الآية تستخدم في الإشارة إلى المراحل الأربع الأولى تعبير «خلقكم» لأنّ ليس للإنسان أي دور فيها، حيث يتطور من التراب إلى النطفة ثمّ إلى العلقة فطفلا صغيراً من دون أن يكون له أي دور في هذه التحولات. لكن في المراحل الثلاث التي تلي الولادة، أي مرحلة الوصول إلى أقصى القوة الجسمية ثمّ مرحلة الشيب وانتهاء العمر، استخدمت الآية تعبير «لتبلغوا» و «لتكونوا» وفيها إشارة إلى كيان الإنسان الحرّ...
وسبق أن أشرنا إلى أنّ التعبير ب «يتوفى» الذي يتضمن معنى الموت، لا يعني الفناء التام وفق المنطق القرآني، بل إنّ ملك الموت يمسك الروح ويقبضها بإذنه تعالى وبحسب الأجل الإلهي المحتوم، فتنقل الأرواح إلى عالم آخر ألا وهو عالم «البرزخ» إن تكرار مفاد هذا التعبير في القرآن الكريم، يبيّن بوضوح نظرة الإسلام تجاه الموت هذا المفهوم الذي يخرج عن نطاق الفهم المادي الضيق الذي يقرن الموت بالفناء والعدم، بينما الموت لا يعبِّر إلاّ عن انتقال الروح من هذا العالم إلى عالم آخر هو عالم البقاء، وقوله تعالى: (ومنكم من يتوفى من قبل) قد يكون إشارة إلى حصول الموت قبل مرحلة الشيخوخة، أو قد يعني الإشارة إلى المراحل السابقة بأجمعها؛ بمعنى أنّ الموت قد يصيب الإنسان قبل أن يبلغ إلى مرحلة من المراحل السابقة. ومن الضروري أن نشير هنا إلى أنّ جميع المراحل، عدا المرحلة الأخيرة -أي بلوغ نهاية العمر وحلول الوفاة- قد عطفت ب «ثم» وهي إشارة إلى السياق التسلسلي الترتيبي في سياق وجودها في حياة الإنسان، فمرحلة «المضغة» لا تسبق مثلا مرحلة «النطفة» وهكذا. وفي هذا النوع من العطف إشارة أيضاً إلى وجود الفاصلة بين مرحلة وأخرى. أما عطف المرحلة الأخيرة بالواو فقد يكون السبب فيه أنّ نهاية العمر لا تكون بالضرورة بعد انتهاء مرحلة الشيخوخة، إذ كثيراً ما يموت الإنسان قبل بلوغه إلى مرحلة الشيخوخة.