السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (67)

ولما استدل تعالى على إثبات الإلهية بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهار والأرض والسماء ، ثم ذكر الليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان ؛ أحدهما : حسن الصورة ورزق الطيبات ، ذكر النوع الثاني : وهو كيفية تكوين البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فقال تعالى : { هو } أي : لا غيره { الذي خلقكم من تراب } أي : بخلق أبيكم آدم عليه السلام منه ، قال الرازي : وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية كلها منتهية إلى النبات ، والنبات إنما يكون من التراب والماء ، فثبت أن كل إنسان متكون من التراب ، ثم إن ذلك التراب يصير نطفة كما قال تعالى : { ثم من نطفة } أي : من مني { ثم من علقة } أي : دم غليظ متباعد حاله عن حال النطفة كما كان حال النطفة متباعداً عن حال التراب { ثم } بعد أن جرت شؤون أخرى { يخرجكم } أي : يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء { طفلاً } أي : أطفالاً والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً { ثم } يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال { لتبلغوا أشدكم } أي : تكامل قوتكم من الثلاثين سنة إلى الأربعين وعن الشعبي صغر الغلام لسبع سنين ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين وينتهي عقله لثمان وعشرين ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين { ثم } يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول { لتكونوا شيوخاً } ضعفاء غرباء قد ماتت قوتكم ووهنت أركانكم ، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم الشين والباقون بكسرها { ومنكم من يتوفى } بقبض روحه { من قبل } أي : قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية أو قبل هذه الأحوال إذا خرج .

تنبيه : قوله تعالى : { لتبلغوا أشدكم } متعلق قال الزمخشري : بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا أشدكم وكذلك لتكونوا وأما قوله : { ولتبلغوا } أي : كل واحد منكم { أجلاً مسمى } فمعناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل : يوم القيامة { ولعلكم تعقلون } أي : ما في ذلك من العبر والحجج وتستدلون بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى .