ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد ، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته ، وروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيراً ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله ، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ، قال ابن مسعود : وكان رسول الله متكئاً فجلس ، وقال : لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً »{[4649]} .
قال القاضي أبو محمد : والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وَأِمن الضرر عليه وعلى المسلمين ، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر ، وقال حذاق أهل العلم : ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية ، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً ، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً . واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية ، لأن قوله { يتناهون } و { فعلوه } يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي . وقوله تعالى { لبئس ما كانوا يفعلون } اللام لام قسم ، جعل الزجاج { ما } مصدرية وقال : التقدير لبئس شيئاً فعلهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وقال غيره { ما } نكرة موصوفة ، التقدير : لبئس الشيء{[4650]} الذي كانوا يفعلون فعلاً .
وجملة { كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ينشأ عن قوله : { ذلك بما عَصوا } ، وهو أن يقال كيفَ تكون أمّة كلّها مُتمالئة على العصيان والاعتداء ، فقال : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } . وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أنّ النّفَر القليل ، فإذا لم يجدوا من يغيِّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتّبَع فيها الدّهماءُ بعضهم بعضاً حتّى تعمّ ويُنسى كونها مناكرَ فلا يَهتدي النّاس إلى الإقلاع عنها والتّوبةِ منها فتصيبهم لعنة الله . وقد روى التّرمذي وأبو داوود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كانَ الرجل من بني إسرائيل يلقَى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول : يا هذا اتّقِ الله ودَع ما تصنع ، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وخليطَه وشريكَه ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داوود وعيسى ابن مريم ، ثُمّ قرأ : { لُعن الّذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله : فَاسقون } [ المائدة : 78 81 ] ثُمّ قال : والّذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظّالم ولتأطُرُنَّهُ على الحقّ أطْرا أوْ لَيضربَنّ الله قلوبَ بعضكم على بعض أو ليلعنُكم كما لَعنهم » .
وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضاً باعتبار مجموع الأمّة وأنّ نَاهيَ فاعل المنكر منهم هو بصدد أن يَنهاه المنهيّ عندما يرتكب هو مُنكراً فيحصل بذلك التّناهي . فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيَّة ، والقرينة عموم الضّمير في قوله { فَعلوه } ، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكُت عليه البعض الآخر ؛ وربّما فعل البعضُ الآخر منكراً آخرَ وسَكت عليه البعض الّذي كان فعَل منكراً قبله وهكذا ، فهم يصانعون أنفسهم .
والمراد ب { ما كانوا يفعلون } تَرْكُهم التناهيَ .
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفِعل في قوله { لبئس ما كانوا يفعلون } مع أنّه ترك ، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه .
وفي هذا دليل للقائلين من أيمّة الكلام من الأشاعرة بأنّه لا تكليف إلاّ بفعل ، وأنّ المكلّف به في النّهي فِعْل ، وهو الانتهاء ، أي الكفّ ، والكفّ فعل ، وقد سمّى الله الترك هنا فِعلاً . وقد أكّد فعل الذّم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمّة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.