الضمير في { عليهم } عائد على الكفار ، و «الآيات » هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله { تتلى } ، و { قد سمعنا } يريد وقد سمعنا هذا المتلو { لو نشاء لقلنا } مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم ، أي قصصهم المكتوبة المسطورة ، و { أساطير } جمع اسطورة ، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري ، لأنه كان يجيء أساطر بدون ياء{[5305]} ، هذا هو قانون الباب ، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صيارف ، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث ، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة ، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل ، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار ، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت فيه آيات من كتاب الله ، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً{[5306]} بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل{[5307]} وكان أسره المقداد{[5308]} ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد : أسيري يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم ، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم أغن المقداد من فضلك » فقال المقداد : هذا الذي أردت ، فضرب عنق النضر ، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبراً ثلاثة نفر ، المطعم بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم عظيم في خبر المطعم ، فقد كان مات قبل يوم بدر{[5309]} ، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو كان المطعم حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له »{[5310]} يعني أسرى بدر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {وإذا تتلى عليهم ءاياتنا}، يعنى القرآن، {قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} القرآن، قال ذلك النضر بن الحارث بن علقمة، من بني عبد الدار بن قصي، ثم قال: {إن هذا} الذي يقول محمد من القرآن {إلا أساطير الأولين} يعني أحاديث الأولين، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يحدث عن الأمم الخالية، وأنا أحدثكم عن رستم وأسفنديار، كما يحدث محمد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة لمن شرح الله صدره لفهمه، قالوا جهلاً منهم وعنادا للحقّ وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم:"لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا" الذي تلي علينا، "إنْ هَذَا إلاّ أساطيرُ الأوّلِين": يعني أنهم يقولون ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلاّ أساطير الأوّلين. والأساطير: جمع أسطر... وقد كان بعض أهل العربية يقول: واحد الأساطير: أسطورة.
وإنما عَنى المشركون بقولهم: "إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأَوّلِينَ": إن هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد إلاّ ما سطر الأوّلون وكتبوه من أخبار الأمم، كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم، وأنه لم يوحه الله إليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قالوا ذلك متعنتين؛ إذ كان يقرع أسماعهم قوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)، وقوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ...) الآية، ثم لم يكن يطمع أحد منهم أن يأتي بمثله، وتكلفوا في ذلك؛ دل أن قولهم: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) تعنت وعناد...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال: لمَّا لاحظوا القرآن بعين الاستصغار حُرِموا بركات الفهم فعدُّوه من جملة أساطير الأولين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس، من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم ذكر تعالى مكابرة من مكابرات هؤلاء المشركين المعاندين الماكرين قالها بعضهم فأعجبت أمثاله منهم فرددوها فعزيت إليهم على الإطلاق...
نقل هذا القول جمهور رواة التفسير المأثور عن النضر بن الحارث من بني عبد الدار...
ولعله أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره، ولم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلقة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي افتراها، فإنهم لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما نقل عن كبار طواغيتهم ومنهم النضر بن الحارث، وقد قال تعالى في ذلك: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33] بل كانوا يوهمون عامة العرب أنه اكتتبها وجمعها كما في آية الفرقان: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 5] أي ليحفظها ولم يكن كبراء مجرمي قريش ولا أهل مكة يعتقدون هذا أيضا فإنهم كلهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يتعلم شيئا، بل تشاوروا في شيء يقولونه ليصدوا به العرب عن القرآن فكان هذا القول منه، وقد كذبهم الله تعالى فيه فما استطاعوا له إثباتا،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة، والخروج من حاكمية العباد جملة؛ والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته. ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وحده، دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله!.. وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها؛ وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد [صلى الله عليه وسلم] ويخضعون لقيادته وسلطانه؛ وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية؛ ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة، وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة..
كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وكان هذا واقعاً يشهده الملأ من قريش؛ ويحسون خطره على كيانهم، وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم.
لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون -لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم؛ ويؤدون بعض الشعائر التعبدية، بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل؛ وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه.
وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة.. ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية؛ ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة؛ كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها؛ وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين.. فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل. ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام..
وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام، ومن هذا القرآن.. إنه لم يزعجهم من قبل أن "الحنفاء "اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم؛ واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده، واجتنبوا عبادة الأصنام أصلاً.. فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء؛ لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية! إن هذا ليس هو الإسلام- كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين، ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين! -إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين.. هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه؛ والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع.. وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش، فيقاومونه بشتى الأساليب.. ومنها هذا الأسلوب.. أسلوب الادعاء على القرآن الكريم، بأنه أساطير الأولين! وأنهم- لو شاءوا -قالوا مثله! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة.. وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون!
والأساطير واحدتها أسطورة. وهي الحكاية المتلبسة- غالباً -بالتصورات الخرافية عن الآلهة؛ وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة، وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً..
وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين؛ وقصص الخوارق والمعجزات؛ وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين... إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات؛ فيقولون للجماهير المستغفلة: إنها أساطير الأولين؛ اكتتبها محمد ممن يجمعونها؛ وجاء يتلوها عليكم، زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله.. وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد انتهائه؛ أو يجلس مجلساً آخر يجاوره؛ ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس؛ ليقول للناس: إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد. وها أنا ذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كما يدعي! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير!
ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس. وبخاصة في أول الأمر، قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص، وبين القرآن الكريم. لندرك لم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث. ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفر القليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى؛ ولم يقبل فيه فدية كالآخرين.
على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً؛ وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين؛ وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله؛ وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً، قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات، فلم يقف له منها شيء؛ وراح الملأ من قريش- في ذعر -يقولون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون!) ووجد كبراؤهم، من أمثال أبي سفيان، وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن؛ ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] في خفية عن الآخرين؛ حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود، ألا يعودوا إليها، مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {قد سمعنا}: قد فهمنا ما تحتوي عليه، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتَبيّنوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق، فلذلك قال الله تعالى عنهم {كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 21] أي لا يفقهون ما سمعوا. ومن عجيب بهتانهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدّاهم بمعارضة سورة من القرآن، فعجزوا عن ذلك وأفحموا، ثم اعتذروا بأن ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك... وقولهم: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} إيهام بأنهم ترفعوا عن معارضته، وأنهم لو شاءوا لنقلوا من أساطير الأولين إلى العربية ما يوازي قصص القرآن وهذه وقاحة، وإلاّ فما منعهم أن يشاءوا معارضة من تحداهم وقرعهم بالعجز بقوله: {فإنْ لم تفعلوا ولنْ تفعلوا} [البقرة: 24] مع تحيزهم وتآمرهم في إيجاد معذرة يعتذرون بها عن القرآن وإعجازه إياهم وتحديه لهم، وما قاله الوليد بن المغيرة في أمر القرآن. و« الأساطير» جمع أسطورة بضم الهمزة وهي القصة، وتقدم عند قوله تعالى: {حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين} في سورة [الأنعام: 25]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا} في ما كان يتلوه عليهم رسول الله من وحي الله، ليتأملوا وليفكروا في معانيه ليهتدوا به، {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} في طريقةٍ توحي بالاستخفاف واللاّمبالاة، كمن يحاول أن ينتهي من الموضوع بشكل سريع، ولهذا فهو يحاول أن لا يدخل في حوارٍ للوصول إلى النتيجة الحاسمة، فيلقي الكلام من دون تفكير. {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ}، لأن ما تقدمه لنا يا محمد مجرد كلام، كالكلام الذي نحدث به بعضنا بعضاً، فليس فيه شيء غير مألوف بما تعوّد الأنبياء أن يقدّموه إلى الناس. {إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} في ما كانوا يتحدثون به من خرافاتٍ لا تمثل شيئاً من الحقيقة. وهكذا نجد أنهم لا يريدون للمسألة أن تأخذ الطابع الجديّ للنقاش وللحوار المفيد...