مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (31)

قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين }

اعلم أنه تعالى لما حكى مكرهم في ذات محمد . حكى مكرهم في دين محمد ، روى أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجرا ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم ، فيقرأ عليهم أساطير الأولين ، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين ، فهذا هو المراد من قوله : { قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين } وههنا موضع بحث ، وذلك لأن الاعتماد في كون القرآن معجزا عن أنه صلى الله عليه وسلم تحدى العرب بالمعارضة ، فلم يأتوا بها ، وهذا إشارة إلى أنهم أتوا بتلك المعارضة ، وذلك يوجب سقوط الدليل المعول عليه .

والجواب : أن كلمة { لو } تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره . فقوله : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } يدل على أنه ما شاء ذلك القول ، وما قال . فثبت أن النضر بن الحرث أقر أنه ما أتى بالمعارضة ، وإنما أخبر أنه لو شاءها لأتى بها ، وهذا ضعيف . لأن المقصود إنما يحصل لو أتى بالمعارضة ، أما مجرد هذا القول فلا فائدة فيه .

والشبهة الثانية : لهم قولهم : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } أي بنوع آخر من العذاب أشد من ذلك وأشق منه علينا .

فإن قيل : هذا الكلام يوجب الإشكال من وجهين : الأول : أن قوله { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } حكاه الله عن الكفار ، وكان هذا كلام الكفار وهو من جنس نظم القرآن فقد حصلت المعارضة في هذا القدر ، وأيضا حكى عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } وذلك أيضا كلام الكفار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ومعارضته ، وذلك يدل على حصول المعارضة . الثاني : أن كفار قريش كانوا معترفين بوجود الإله وقدرته وحكمته وكانوا قد سمعوا التهديد الكثير من محمد عليه الصلاة والسلام في نزول العذاب ، فلو كان نزول القرآن معجزا لعرفوا كونه معجزا لأنهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، ولو عرفوا ذلك لكان أقل الأحوال أن يصيروا شاكين في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، ولو كانوا كذلك لما أقدموا على قولهم : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } لأن المتوقف الشاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة ، وحيث أتوا بهذه المبالغة ، علمنا أنه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة .

والجواب عن الأول : أن الإتيان بهذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة ، لأن هذا المقدار كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة ، وهذا الجواب لا يتمشى إلا إذا قلنا التحدي ما وقع بجميع السور ، وإنما وقع بالسورة الطويلة التي يظهر فيها قوة الكلام .

والجواب عن الثاني : هب أنه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجز إلا أنه لما كان معجزا في نفسه ، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال فيه .