في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (31)

30

ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم ؛ ودعاويهم ومفترياتهم . حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا ! مع وصف هذا القرآن الكريم ، بأنه أساطير الأولين :

( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا إلا أساطير الأولين ) . .

ذكر ابن كثير في التفسير - نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم - أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال : " فإنه - لعنه الله - كان قد ذهب إلى بلاد فارس ، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ؛ ولما قدم وجد رسول الله [ ص ] قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن . فكان - عليه [ ص ] - إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ؛ ثم يقول : بالله أينا أحسن قصصا ? أنا أو محمد ? ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى ، أمر رسول الله [ ص ] أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ، ففعل ذلك والحمد لله . وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه . . كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد ابن جبير قال : قتل النبي [ ص ] يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث . وكان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله ، أسيري ! فقال رسول الله [ ص ] : " إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول " . فأمر رسول الله [ ص ] بقتله ، فقال المقداد : يا رسول الله ، أسيري ! فقال رسول الله [ ص ] : " اللهم أغن المقداد من فضلك " . فقال المقداد : هذا الذي أردت ! قال : وفيه أنزلت هذه الآية : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا ، لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين ) . .

ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن : إنه أساطير الأولين : ( وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) . .

وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن ، وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب ؛ ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك . وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات . وهم يعلمون أنها مناورات ! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب ، الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات ، للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد !

لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة ، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة ، والخروج من حاكمية العباد جملة ؛ والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته . ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله [ ص ] وحده ، دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله ! . . وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها ؛ وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد [ ص ] ويخضعون لقيادته وسلطانه ؛ وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية ؛ ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة ، وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة . .

كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . وكان هذا واقعاً يشهده الملأمن قريش ؛ ويحسون خطره على كيانهم ، وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم .

لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون - لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم ؛ ويؤدون بعض الشعائر التعبدية ، بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل ؛ وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه .

وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة . . ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ؛ ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة ؛ كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها ؛ وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين . . فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل . ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام . .

وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام ، ومن هذا القرآن . . إنه لم يزعجهم من قبل أن " الحنفاء " اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم ؛ واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده ، واجتنبوا عبادة الأصنام أصلاً . . فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء ؛ لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية ! إن هذا ليس هو الإسلام - كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين ، ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين ! - إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين . . هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه ؛ والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع . . وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش ، فيقاومونه بشتى الأساليب . . ومنها هذا الأسلوب . . أسلوب الادعاء على القرآن الكريم ، بأنه أساطير الأولين ! وأنهم - لو شاءوا - قالوا مثله ! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة . . وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون !

والأساطير واحدتها أسطورة . وهي الحكاية المتلبسة - غالباً - بالتصورات الخرافية عن الآلهة ؛ وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة ، وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً . .

وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين ؛ وقصص الخوارق والمعجزات ؛ وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين . . . إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات ؛ فيقولون للجماهير المستغفلة : إنها أساطير الأولين ؛ اكتتبها محمد ممن يجمعونها ؛ وجاء يتلوها عليكم ، زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله . . وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله [ ص ] بعد انتهائه ؛ أو يجلس مجلساً آخر يجاوره ؛ ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس ؛ ليقول للناس : إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد . وهأنذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كما يدعي ! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير !

ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس . وبخاصة في أول الأمر ، قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص ، وبين القرآن الكريم . لندرك لم نادى منادي رسول الله [ ص ] قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث . ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفرالقليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى ؛ ولم يقبل فيه فدية كالآخرين .

على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً ؛ وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين ؛ وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله ؛ وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً ، قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات ، فلم يقف له منها شيء ؛ وراح الملأ من قريش - في ذعر - يقولون : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ! )ووجد كبراؤهم ، من أمثال أبي سفيان ، وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن ؛ ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله [ ص ] في خفية عن الآخرين ؛ حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود ، ألا يعودوا إليها ، مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين !

على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه ، لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون . . لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر . . لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن . فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون ، وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم . . . ويفهمون أنهم مسلمون ، ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين !

لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه . . لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها . . حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم ، إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم ، وقيمهم وموازينهم ! ثم قالوا لهم : إن هذا الدين محترم ، وإن هذا القرآن مصون . وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين ؛ ويترنم به المترنمون ، ويرتله المرتلون . . فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل ? ! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم ، وأما أنظمتكم وأوضاعكم ، وأما شرائعكم وقوانينكم ، وأما قيمكم وموازينكم ، فإن هناك قرآنا آخر هو المرجع فيها كلها ، فإليه ترجعون !

إنها مناورة النضر بن الحارث ، ولكن في صورة متطورة معقدة ، تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة . . ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة ، التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين ، على مدار القرون !

ولكن العجيب في شأن هذا القرآن ، أنه - على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه - ما يزال يغلب ! . . إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة ، والسلطان القاهر على الفطرة ، ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين ؛ وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين !

إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية ؛ بحيث يذيعه - على السواء - اليهود ، ويذيعه الصليبيون ، ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين !

وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس " المسلمين " ! - إلى مجرد أنغام وتراتيل ؛ أو مجرد تمائم وتعاويذ ! وبعد أن أبعدوه - حتى في خاطر الناس . . المسلمين ! . . من أن يكون مصدر التوجيه للحياة ؛ وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون . . ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد ؛ وسيظل يعمل ؛ وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب ، وتتخذه وحده مصدر التوجيه ؛ وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين . من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد . . وما كان مرة لا بد أن سيكون . .