قوله تعالى : { ولو ترى } ، يا محمد .
قوله تعالى : { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون } ، أي : يقبضون أرواحهم . اختلفوا فيه ، قيل : هذا عند الموت ، تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط النار . وقيل : أراد الذين قتلوا من المشركين ببدر كانت الملائكة يضربون . { وجوههم وأدبارهم } ، قال سعيد بن جبير ومجاهد : يريد أستاهم ، ولكن الله حيي يكني . قال ابن عباس : كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف ، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم . وقال ابن جريج : يريد ما أقبل منهم وما أدبر ، أي : يضربون أجسادهم كلها ، والمراد بالتوفي : القتل .
قوله تعالى : { وذوقوا عذاب الحريق } ، أي : وتقول لهم الملائكة : { ذوقوا عذاب الحريق } وقيل : كان مع الملائكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار ، فتلتهب النار في جراحاتهم ، فذلك قوله تعالى : { وذوقوا عذاب الحريق } . وقال الحسن : هذا يوم القيامة ، تقول لهم خزنة جهنم : ذوقوا عذاب الحريق . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يقولون لهم ذلك بعد الموت .
يقول تعالى : ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار ، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا منكرا ؛ إذ يضربون وجوههم وأدبارهم ، ويقولون لهم : { ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
قال ابن جريج ، عن مجاهد : { وأدبارهم } استاههم ، قال : يوم بدر .
قال ابن جُرَيْج ، قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون{[13078]} بوجوههم إلى المسلمين ، ضربوا وجوههم بالسيوف ، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم .
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : { إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } يوم بدر .
وقال وَكِيع ، عن سفيان الثوري ، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير ، عن مجاهد ، عن شعبة ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جُبَيْر : { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } قال : وأستاههم{[13079]} ولكن الله يَكْنِي .
وكذا قال عمر مولى غُفْرة{[13080]}
وعن الحسن البصري قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك{[13081]} قال ما ذاك ؟ قال : " ضرب الملائكة{[13082]} " .
رواه ابن جرير{[13083]} وهو مرسل .
وهذا السياق - وإن كان سببه وقعة بدر - ولكنه عام في حق كل كافر ؛ ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر ، بل قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وفي سورة القتال مثلها{[13084]} وتقدم في سورة الأنعام [ عند ]{[13085]} قوله : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } [ الأنعام : 93 ]أي : باسطو أيديهم بالضرب فيهم ، يأمرونهم إذ استصعبت أنفسهم ، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرًا . وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله ، كما [ جاء ]{[13086]} في حديث البراء : إن ملك الموت - إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة - يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سَمُوم وحميم ، وظل من يحموم ، فتتفرق في بدنه ، فيستخرجونها من جسده ، كما يخرج السفود من الصوف المبلول فتخرج معها العروق والعصب ؛ ولهذا أخبر{[13087]} تعالى أن الملائكة تقول لهم : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
لمّا وُفِّيَ وصفُ حال المشركين حقَّه ، وفصّلت أحوال هزيمتهم ببدر ، وكيف أمكن الله منهم المسلمين ، على ضُعف هؤلاء وقوة أولئك ، بما شاهده كلّ حاضر حتّى ليوقن السامع أنّ ما نال المشركين يومئذ إنّما هو خذلان من الله إيّاهم ، وإيذان بأنّهم لاقون هلاكهم ما داموا مناوئين لله ورسوله ، انتُقِل إلى وصف ما لقيه من العذاب مَنْ قُتل منهم يوم بدر ، ممّا هو مغيب عن الناس ، ليعلم المؤمنون ويرتدع الكافرون ، والمراد بالذين كفروا هنا الذين قتلوا يوم بدر ، وتكون هذه الآية من تمام الخبر عن قوم بدر .
ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا جميع الكافرين حملاً للموصول على معنى العموم فتكون الآية اعتراضاً مستطرداً في خلال القصّة بمناسبة وَصف ما لقيه المشركون في ذلك اليوم ، الذي عجّل لهم فيه عذاب الموت .
وابتدىء الخبر ب { ولو ترى } مخاطباً به غير معين ، ليعمّ كلّ مخاطب ، أي : لو ترى أيّها السامع ، إذ ليس المقصود بهذا الخبر خصوص النبي صلى الله عليه وسلم حتّى يحمل الخطاب على ظاهره ، بل غير النبي أولى به منه ، لأن الله قادر أن يطلع نبيه على ذلك كما أراه الجنّة في عرض الحائط .
ثمّ إن كان المراد بالذين كفروا مشركي يوم بدر ، وكان ذلك قد مضى يكن مقتضى الظاهر أن يقال : ولو رأيت إذ تَوفَّى الذين كفروا الملائكة . فالإتيان بالمضارع في الموضعين مكانَ الماضي ؛ لقصد استحضار تلك الحالة العجيبة ، وهي حالة ضرب الوجوه والأدبار ، ليخيّل للسامع أنّه يشاهد تلك الحالة ، وإن كان المراد المشركين حيثما كانوا كان التعبير بالمضارع على مقتضى الظاهر .
وجواب { لو } محذوف تقديره : لرأيت أمراً عجيباً . وقرأ الجمهور : يتوفّى بياء الغائب وقرأه ابن عامر : تتوفّى بتاء التأنيث رعيا لصورة جمع الملائكة .
والتوفِّي : الإماتة سمّيت توفّياً ؛ لأنها تنهي حياة المرء أو تستوفيها { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [ السجدة : 11 ]
وجملة : { يضربون وجوههم وأدبارهم } في موضع الحال إن كان المراد من التوفّي قبض أرواح المشركين يوم بدر حين يقتلهم المسلمون ، أي : يزيدهم الملائكة تعذيباً عند نزع أرواحهم ، وهي بدل اشتمال من جملة : { يتوفى } إن كان المراد بالتوفّي توفياً يتوفّاه الملائكة الكافرين .
وجملة : { وذوقوا عذاب الحريق } معطوفة على جملة : { يضربون } بتقدير القول ، لأنّ هذه الجملة لا موقع لها مع التي قبلها ، إلاّ أن تكون من قول الملائكة ، أي : ويقولون : ذوقوا عذاب الحريق كقوله : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا } [ البقرة : 127 ] ، وقوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا } [ السجدة : 12 ] .
وذكر الوجوه والأدبار للتعميم ، أي : يضربون جميع أجسادهم . فالأدبار : جمع دبر وهو ما دَبَر من الإنسان .
ومنه قوله تعالى : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } [ القمر : 45 ] . وكذلك الوجوه كناية عمّا أقبل من الإنسان ، وهذا كقول العرب : ضربته الظهر والبطن ، كناية عمّا أقبل وما أدبر أي ضربته في جميع جسده .
و« الذوق » مستعمل في مطلق الإحساس ، بعلاقة الإطلاق .
وإضافة العذاب إلى الحريق من إضافة الجنس إلى نوعه ، لبيان النوع ، أي عذاباً هو الحريق ، فهي إضافة بيانية .
و { الحريق } هو اضطرام النار ، والمراد به جهنّم ، فلعلّ الله عجّل بأرواح هؤلاء المشركين إلى النار قبل يوم الحساب ، فالأمر مستعمل في التكوين ، أي : يذيقونهم ، أو مستعمل في التشفّي ، أو المراد بقول الملائكة { وذوقوا } إنذارهم بأنّهم سيذوقونه ، وإنّما يقع الذوق يوم القيامة ، فيكون الأمر مستعملاً في الإنذار كقوله تعالى : { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } [ إبراهيم : 30 ] بناء على أنّ التمتّع يؤذن بشيء سيحدث بعد التمتّع مضاد لما به التمتّع .