أي : مخلدون فيها ، لا محيد لهم عنها ، ولا محيص .
وقد أورد ابن جرير ، رحمه الله ، هاهنا حديثا ساقه من طريقين ، عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد ،
عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطْعَة{[1622]} عن أبي سعيد - واسمه سعد بن مالك بن سِنَان الخُدْري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، لكن أقواماً أصابتهم النار بخطاياهم ، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحماً أذنَ في الشفاعة " . وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به{[1623]} .
[ وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول ، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير ، كما تقول : قم قم ، وقال آخرون : بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض ، والصحيح الأول ، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه ]{[1624]} .
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } عطف على { فمن تبع } إلى آخره قسيم له كأنه قال : ومن لم يتبع بل كفروا بالله ، وكذبوا بآياته ، أو كفروا بالآيات جنانا ، وكذبوا بها لسانا فيكون الفعلان متوجهين إلى الجار والمجرور . والآية في الأصل العلامة الظاهرة ، ويقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته ، ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل ، واشتقاقها من آي لأنها تبين آيا من أي أو من أوى إليه ، وأصلها أأية أو أوية كتمرة ، فأبدلت عينها ألفا على غير قياس . أو أيية . أو أوية كرمكة فأعلت . أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا . والمراد { بآياتنا } الآيات المنزلة ، أو ما يعمها والمعقولة . وقد تمسكت الحشوية بهذه ال قصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وجوه :
الأول : أن آدم صلوات الله عليه كان نبيا ، وارتكب المنهي عنه والمرتكب له عاص .
والثاني : أنه جعل بارتكابه من الظالمين والظالم ملعون لقوله تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } .
والثالث : أنه تعالى أسند إليه العصيان ، فقال { وعصى آدم ربه فغوى } والرابع : أنه تعالى لقنه التوبة ، وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه . والخامس : اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله تعالى إياه بقوله : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } والخاسر من يكون ذا كبيرة .
والسادس : أنه لو لم يذنب لم يجر عليه ما جرى . والجواب من وجوه .
الأول : أنه لم يكن نبيا حينئذ ، والمدعي مطالب بالبيان .
والثاني : أن النهي للتنزيه ، وإنما سمي ظالما وخاسرا لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى له . وأما إسناد الغي والعصيان إليه فسيأتي الجواب عنه في موضعه إن شاء الله تعالى . وإنما أمر بالتوبة تلافيا لما فات عنه ، وجرى عليه ما جرى معاتبة له على ترك الأولى ، ووفاء بما قاله للملائكة قبل خلقه .
والثالث : أنه فعله ناسيا لقوله سبحانه وتعالى : { فنسي ولم نجد له عزما } ولكنه عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان ، ولعله وإن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم كما قال عليه الصلاة والسلام : " أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل " .
أو أدى فعله إلى ما جرى عليه على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة على تناوله ، كتناول السم على الجاهل بشأنه . لا يقال إنه باطل لقوله تعالى : { ما نهاكما ربكما } ، و{ قاسمهما } الآيتين ، لأنه ليس فيهما ما يدل على أن تناوله حين ما قال له إبليس ، فلعل مقاله أورث فيه ميلا طبيعيا ، ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله تعالى إلى أن نسي ذلك ، وزال المانع فحمله الطبع عليه .
والرابع : أنه عليه السلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، فإنه ظن أن النهي للتنزيه ، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتتناول من غيرها من نوعها وكان المراد بها الإشارة إلى النوع ، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام " أخذ حريرا وذهبا بيده وقال : " هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها " . وإنما جرى عليه ما جرى تعظيما لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده . وفيها دلالة على أن الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية ، وأن التوبة مقبولة ، وأن متبع الهدى مأمون العاقبة ، وأن عذاب النار دائم ، وأن الكافر فيه مخلد ، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى : { هم فيها خالدون } .
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، وعقبها تعداد النعم العامة تقريرا لها وتأكيدا ، فإنها من حيث إنها حوادث محكمة تدل على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له ، ومن حيث إن الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممن لم يتعلمها ، ولم يمارس شيئا منها إخبار بالغيب معجز يدل على نبوة المخبر عنها ، ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك ، تدل على أنه قادر على الإعادة كما كان قادرا على الإبداء ، خاطب أهل العلم والكتاب منهم ، وأمرهم أن يذكروا نعم الله تعالى عليهم ، ويوفوا بعهده في اتباع الحق واقتفاء الحجج ليكونوا أول من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فقال :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 )
وقوله تعالى : { والذين كفروا } الآية ، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة ، وقال { وكذبوا } وكان في الكفر كفاية لأن لفظة كفرا يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي ، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك ، بقوله { وكذبوا بآياتنا } والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة ، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة ، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية ، و { أولئك } رفع بالابتداء و { أصحاب } خبره ، والصحبة الاقتران( {[524]} ) بالشيء في حالة ما ، في زمن ما ، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة ، وهكذا هي صحبة أهل النار لها ، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة ، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن ، وأكثرها الخلطة والملازمة ، و { هم فيها خالدون } ، ابتداء وخبر في موضع الحال .
وقوله : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } يحتمل أنه من جملة ما قيل لآدم فإكمال ذكره هنا استيعاب لأقسام ذرية آدم وفيه تعريض بالمشركين من ذرية آدم وهو يعم من كذب بالمعجزات كلها ومن جملتها القرآن ، عطف على { مَن } الشرطية في قوله : { فمن تبع هداي } إلخ فهو من عطف جملة اسمية على جملة اسمية ، وأتى بالجملة المعطوفة غير شرطية مع ما في الشرطية من قوة الربط والتنصيص على ترتب الجزاء على الشرط وعدم الانفكاك عنه لأن معنى الترتب والتسبب وعدم الانفكاك قد حصل بطرق أخرى فحصل معنى الشرط من مفهوم قوله : { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم } فإنه بشارة يؤذن مفهومها بنذارة من لم يتبعه فهو خائف حزين فيترقب السامع ما يبين هذا الخوف والحزن فيحصل ذلك بقوله : { والذين كفروا وكذبوا } الآية . وأما معنى التسبب فقد حصل من تعليق الخبر على الموصول وصلته المومىء إلى وجه بناء الخبر وعلته على أحد التفسيرين في الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وأما عدم الانفكاك فقد اقتضاه الإخبار عنهم بأصحاب النار المقتضي للملازمة ثم التصريح بقوله : { هم فيها خالدون } .
ويحتمل أنه تذييل ذيلت به قصة آدم لمناسبة ذكر المهتدين وليس من المقول له ، والمقصود من هذا التذييل تهديد المشركين والعود إلى عرض قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] وقوله : { كيف تكفرون بالله } [ البقرة : 28 ] فتكون الواو في قوله : { والذين كفروا } اعتراضية والمراد بالذين كفروا الذين أنكروا الخالق وأنكروا أنبياءه وجحدوا عهده كما هو اصطلاح القرآن والمعنى والذين كفروا بي وبهداي كما دلت عليه المقابلة .
والآيات جمع آية وهي الشيء الدال على أمر من شأنه أن يخفى ، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنهم وضعوها للإرشاد إلى الطرق الخفية في الرمال ، وتسمى الحجة آية لأنها تظهر الحق الخفي ، كما قال الحارث بن حلزة :
من لنا عنده من الخير آيا *** تٌ ثلاثٌ في كلهن القضاء
يعني ثلاث حجج على نصحهم وحسن بلائهم في الحرب وعلى اتصالهم بالملك عمرو بن هند . وسمى الله الدلائل على وجوده وعلى وحدانيته وعلى إبطال عقيدة الشرك آيات ، فقال : { وماتأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } [ الأنعام : 4 ] وقال : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } [ الأنعام : 97 ] إلى قوله : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] وقال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } [ الأنعام : 109 ] وسمي القرآن آية فقال : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله إلى قوله { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } في سورة العنكبوت ( 50 ، 51 ) . وسمَّى أجزاءه آيات فقال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } [ الحج : 72 ] وقال : { المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق } [ الرعد : 1 ] لأن كل سورة من القرآن يعجز البشر عن الإتيان بمثلها كما قال تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] ، فكان دالاً على صدق الرسول فيما جاء به وكانت جمله آيات لأن بها بعضَ المقدار المعجز ، ولم تسم أجزاء الكتب السماوية الأخرى آيات ، وأما ما ورد في حديث الرجم أن ابن صوريا حين نشر التوراة وضع يده على آية الرجم فذلك على تشبيه الجزء من التوراة بالجزء من القرآن وهو من تعبير راوي الحديث .
وأصل الآية عند سيبويه فَعَلَة بالتحريك أَيَيَهْ أو أَوَيَهْ على الخلاف في أنها واوية أو يائية مشتقة من أي الاستفهامية أو من أوى{[114]} فلما تحرك حرفَا العلة فيها قلب أحدهما وقُلب الأول تخفيفاً على غير قياس لأن قياس اجتماع حرفي علة صالحين للإعلال أن يعل ثانيهما إلا ما قل من نحو آيَة وقَاية وطَاية وثَاية ورَاية{[115]} .
فالمراد بآياتنا هنا آيات القرآن أي وكذبوا بالقرآن أي بأنه وحي من عند الله . والباء في قوله : { وكذبوا بآياتنا } باء يكثر دخولها على متعلق مادة التكذيب مع أن التكذيب متعد بنفسه ولم أقف في كلام أئمة اللغة على خصائص لحاقها بهذه المادة والصيغة فيحتمل أنها لتأكيد اللصوق للمبالغة في التكذيب فتكون كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وقول النابغة :
* لك الخير أَنْ وارتْ بك الأرضُ واحدا *
ويحتمل أن أصلها للسببية وأن الأصل أن يُقال كذَّب فلاناً بخبره ثم كثر ذلك فصار كذب به وكذَب بمعنى واحد والأكثر أن يقال كذَّب فلاناً ، وكذب بالخبر الفلاني ، فقوله : { بآياتنا } يتنازعه فعلا كَفروا وكَذبوا . وقوله : { هم فيها خالدون } بيان لمضمون قوله : { أصحاب النار } فإن الصاحب هنا بمعنى الملازم ولذلك فصلت جملة { فيها خالدون } لتنزلها من الأولى منزلة البيان فبينهما كمال الاتصال .