افتتحت هذه السورة بالإخبار بأنه سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، وأنه لا يليق بالمؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون ، وإن الله يحب أن يكونوا يدا واحدة ، ثم وصمت بني إسرائيل بالعناد والكفر على لسان رسولين كريمين هما موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وبأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله ، والله متم نوره ، وفيها وعد الله ووعده الحق أن يظهر هذا الدين على ما سواه ولو كره المشركون . وختمت بالحث على الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس ، وبوعد المجاهدين بالمغفرة والجنة ، وأخرى يحبها المؤمنون : نصر من الله وفتح قريب ، ويحث المؤمنين أن يكونوا أنصار الله كما كان الحواريون مع عيسى ابن مريم ، وبأن الله يؤيد المؤمنين بنصره وهو الغالب على كل شيء ذو الحكمة البالغة .
1- نزَّه الله عما لا يليق به كل ما في السماوات وما في الأرض ، وهو - وحده - الغالب على كل شيء ، ذو الحكمة البالغة .
قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة - وعن عطاء بن يسار ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا : أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة ، يعني سورة الصف كلها . هكذا رواه الإمام أحمد{[1]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي{[2]} قراءة قال : أخبرني أبي ، سمعت الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني عبد الله بن سلام . أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ؟ فلم يذهب إليه أحد منا ، وهبنا أن نسأله عن ذلك ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ، ونزلت فيهم هذه السورة : ( سبح ) الصف قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها . قال أبو سلمة : وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها ، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها . قال الأوزاعي : وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها . قال أبي : وقرأها علينا الأوزاعي كلها .
وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم : أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه . فأنزل الله : " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ] " {[3]} قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو سلمة : فقرأها علينا ابن سلام . قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة . قال ابن كثير : فقرأها علينا الأوزاعي . قال عبد الله : فقرأها علينا ابن كثير .
ثم قال الترمذي : وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي ، فروى ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن سلام - أو : عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام{[4]}
قلت : وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن يعمر ، عن ابن المبارك ، به{[5]}
قال الترمذي : وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي ، نحو رواية محمد بن كثير .
قلت : وكذا رواه الوليد بن يزيد ، عن الأوزاعي ، كما رواه ابن كثير .
قلت : وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي{[6]} أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال : أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي ، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده{[7]} أخبرنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي . . . فذكر بإسناده مثله ، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار ، ولم يقرأها ، لأنه كان أميا ، وضاق الوقت عن تلقينها إياه . ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، رحمه الله : أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر ، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي{[8]} فذكره بإسناده ، وتَسلل{[9]} لي من طريقة ، وقرأها علي بكمالها ، ولله الحمد والمنة .
تقدم الكلام على قوله : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } غير مرة ، بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : سَبّحَ لِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ السبع وَما فِي الأرْضِ من الخلق ، مُذعنين له بالألوهة والربوبية وَهُوَ العَزِيزُ في نقمته ممن عصاه منهم ، فكفر به ، وخالف أمره الْحَكِيمُ في تدبيره إياهم .
( 61 ) سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة ، وهي مدنية في قول الجمهور ، وقال مكي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والمهدوي عن عطاء ومجاهد : إنها مكية ، والأول أصح لأن معاني السورة تعضده ، ويشبه أن يكون فيها المكي .
قوله عز وجل :{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
قد تقدم القول غير مرة في تسبيح الجمادات ، و { العزيز } في سلطانه وقدرته ، و { الحكيم } في أفعاله وتدبيره .
اشتهرت هذه السورة باسم { سورة الصف } وكذلك سميت في عصر الصحابة .
روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبد الله بن سلام أن ناسا قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى أن قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر حتى جمعهم ونزلت فيهم { سورة سبح لله الصف } الحديث ، رواه ابن كثير ، وبذلك عنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي ، وكذلك كتب اسمها في المصاحف وفي كتب التفسير .
ووجه التسمية وقوع لفظ { صفا } فيها وهو صف القتال ، فالتعريف باللام تعريف العهد .
وذكر السيوطي في الإتقان : أنها تسمى { سورة الحواريين } ولم يسنده . وقال الآلوسي تسمى { سورة عيسى } ولم أقف على نسبته لقائل . وأصله للطبرسي فلعله أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبي بن كعب بلفظ { سورة عيسى } . وهو حديث موسوم بأنه موضوع . والطبرسي يكثر من تخريج الأحاديث الموضوعة . فتسميتها { سورة الحواريين } لذكر الحواريين فيها . ولعلها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين .
وإذا ثبت تسميتها { سورة عيسى } فلما فيها من ذكر { عيسى } مرتين .
وهي مدنية عند الجمهور كما يشهد لذلك حديث عبد الله بن سلام . وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في الكشاف والفخر . وقال ابن عطية : الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكي .
واختلف في سبب نزولها وهل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة .
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله . وأخرجه الحاكم وأحمد في مسنده وابن أبي حاتم والدرامي بزيادة فقرأها علينا رسول الله حتى ختمها أو فقراها كلها .
فهذا يقتضي أنهم قيل لهم : لم تقولون ما لا تفعلون قبل أن يخلفوا ما وعدوا به فيكون الاستفهام مستعملا مجازا في التحذير من عدم الوفاء بما نذروه ووعدوا به .
وعن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله أن أحب الأعمال : إيمان به وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به . فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم . فأنزل الله سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } .
ومثله عن أبي صالح أن السورة نزلت بعد أن أمروا بالجهاد بآيات غير هذه السورة . وبعد أن وعدوا بالانتداب للجهاد ثم تقاعدوا عنه وكرهوه . وهذا المروي عن ابن عباس وهو أوضح وأوفق بنظم الآية ، والاستفهام فيه للتوبيخ واللوم وهو المناسب لقوله بعده { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } .
وعن مقاتل بن حيان : قال المؤمنون : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله فقال : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } ، فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا مدبرين فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } . ونسب الواحدي مثل هذا للمفسرين وهو يقتضي أن صدر الآية نزل بعد آخرها .
وعن الكلبي : أنهم قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها فنزلت { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } الآية . فابتلوا يوم أحد فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } تعيرهم بترك الوفاء . وهو يقتضي أن معظم السورة قبل نزول الآية التي في أولها .
وهي السورة الثامنة والمائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد . نزلت بعد سورة التغابن وقبل سورة الفتح . وكان نزولها بعد وقعة أحد .
وعدد آيها أربع عشرة آية باتفاق أهل العدد .
أول أغراضها التحذير من إخلاف الوعد والالتزام بواجبات الدين .
والتحريض على الجهاد في سبيل الله والثبات فيه ، وصدق الإيمان .
والائتساء بالصادقين مثل الحواريين .
والتحذير من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم تعريضا باليهود مثل كعب بن الأشرف .
وضرب المثل لذلك بفعل اليهود مع موسى وعيسى عليهما السلام .
والوعد على إخلاص الإيمان والجهاد بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح .
مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بأن تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية . وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدُّوا حق تسبيح الله ، لأن الله مستحق لأن يوفّى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوّهم .
وتقدم الكلام على نظير قوله : { سبح لله } إلى { الحكيم } في أول سورة الحشر وسورة الحديد .
وفي إجراء وصف { العزيز } عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوّه فما كان لكم أن تَرهَبُوا أعداءه فتفرّوا منهم عند اللقاء .
وإجراء صفة { الحكيم } إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدوّ عبثاً ولا يخليهم يغلبونكم . وإن حملت على معنى المُحكِم للأمور فكذلك .