تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة الصف

( سورة الصف مدنية ، وآياتها 14 آية ، نزلت بعد سورة التغابن )

وهي سورة تدعو إلى وحدة الصف ، وتماسك الأمة ، وتحث على الجهاد ، وتنفّر من الرياء ، وتبين أن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى الأرض ، وأن رسالات السماء كانت دعوة هادفة لبناء الإنسان والدعوة إلى الخير والعدل ، وقد أرسل الله موسى بالتوراة ، فلما انحرف اليهود عن تعاليم السماء أرسل الله عيسى عليه السلام مجددا لناموس التوراة ، ومبشرا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، متممة للرسالات السابقة ، مشتملة على مبادئ الحق واليسر والعدل والمساواة ، وقد كره المشركون انتصار النور والخير فحاولوا مقاومة هذه الدعوة وإطفاء نورها ، ولكن الله أيد الإسلام حتى طوى ممالك الفرس والروم ، وعمّ المشارق والمغارب .

وقد حاولت الصليبية الحاقدة اجتياح بلاد الإسلام في فترات متعددة ، من بينها الحروب الصليبية التي انتهت بهزيمة المعتدين وانتصار المسلمين ، ووجهت الصليبية ضرباتها للمسلمين في الأندلس ، وحاولت تصفية الإسلام أيام الدولة العثمانية ، وأطلقت على تركيا لقب : الرجل المريض ، وعلى البلاد التي تحت يدها : تركة الرجل المريض ، فلما قام كمال أتاتورك بإعلان إلغاء الخلافة الإسلامية كبر له الغرب وهلل ، وتراجعت جيوشه من أمام تركيا ، وجعلوا من أتاتورك بطلا عملاقا لقضائه على الخلافة الإسلامية .

وفي هذه الأيام تقوى الحركة الإسلامية في تركيا ، وتمتلئ المساجد والمدارس الإسلامية بالباحثين وتشتد سواعد الحزب الإسلامي هناك ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون .

سبب نزول السورة

جمهور المفسرين على أن صدر هذه السورة نزل حين اشتاق المسلمون إلى معرفة أحب الأعمال إلى الله ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } . ( الصف : 4 ) .

فلما أخبرهم الله بأن أفضل الأعمال بعد الإيمان هو الجهاد في سبيل الله ، كره قوم الجهاد ، وشق عليهم أمره : فقال الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } . ( الصف : 2-3 ) .

هدفا السورة

لسورة الصف هدفان رئيسيان :

الهدف الأول : الدعوة إلى الجهاد والحثّ عليه ، والتحذير من كراهيته والفرار منه ، وبيان ثوابه وفضله ، وأنه تجارة رابحة . وتبع ذلك ترسيخ العقيدة ، ووجوب اتفاق الظاهر مع الباطن ، ووجوب الطاعة للقائد ، وتماسك الأمة ، وترابط بنيانها حتى تصبح صفا واحدا ، محكم الأساس ، قوي الوشيجة والرباط ، كأنه بنيان مرصوص .

فالآيات الأربع الأولى دعوة للجهاد ، وتحذير من الخوف والجبن ، وبيان أن العقيدة السليمة تستتبع التضحية والفداء ، حتى يصبح جيش الإسلام قوي البناء متلاحم الصفوف .

والآيات ( 10-12 ) صورة رائعة لفضل الجهاد وثوابه فهو أربح تجارة ، وأفضل سبيل للمغفرة ودخول الجنة ، وهو باب النصر والفتح ، والبشرى للمؤمنين بالسيادة والعزة .

والهدف الثاني : بيان وحدة الرسالات ، فالرسالات الإلهية كلها دعوة إلى التوحيد ، وثورة على الباطل ، وإصلاح للضمير ، وإرساء لمعالم الفضيلة ، ومحاربة للرذيلة .

وقد دعا الرسل جميعا إلى توحيد الله ، وتكفل كل رسول بإرشاد قومه وهدايتهم ونصحهم إلى ما فيه الخير ، وتحذيرهم من الانحراف والشر .

وفي سورة الصف نجد الآية الخامسة تبين رسالة موسى لقومه ، وتذكر عنت اليهود ، وإيذاءهم لموسى وتجريحهم له ، وانصرافهم عن روحانية الدعوة إلى مادية المال .

وفي الآية السادسة نجد عيسى عليه السلام يجدد أمر الناموس ، ويصيح باليهود صيحات ضارعة ، ويعظهم ويدعوهم للإيمان ، ويحثهم على الصدقة ، والعناية بالروح ، وتقديم الخير لوجه الله .

والمسيح يبشر برسالة أحمد خاتم المرسلين ، فالرسالات كلها حلقات متتابعة في تاريخ الهداية والإصلاح ، والإسلام كان ختام هذه الرسالات وآخرها ، والمهيمن عليها ، فقد حفظ تاريخها في القرآن ، ودعا إلى الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل .

قال تعالى : { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } . ( البقرة : 285 ) .

وروى البخاري في صححيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يقولون : لو وُضعت هذه اللبنة ، فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل " i

وقال تعالى : { قُولُوا آمنّا بِاللّهِ وما أُنْزِل إِليْنا وما أُنْزِل إِلى إِبْراهِيم وإِسْماعِيل وإِسْحاق ويعْقُوب والْأسْباطِ وما أُوتِي مُوسى وعِيسى وما أُوتِي النّبِيُّون مِنْ ربِّهِمْ لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ ونحْنُ لهُ مُسْلِمُون } . ( البقرة : 136 ) .

وفي آخر آية في السورة دعوة للمسلمين أن ينصروا دين الله ، كما نصر الحواريون دين عيسى ، أيام كان دينه توحيدا خالصا ، والعاقبة دائما للمتقين .

والعبرة المستفادة من هذه الدعوة هي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير ، الأمناء على منهج الله في الأرض ، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية ، المختارين لهذه المهمة الكبرى .

استنهاض همتهم لنصرة الله ، ونصرة دينه ورسالته وشريعته : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ . . . }( الصف : 14 ) .

المقصد الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سور الصف هو : عتاب الذين يقولون أقوالا لا يعلمون بمقتضاها ، وتشريف الغزاة والمصلين ، والتنبيه على جفاء بني إسرائيل ، وإظهار دين المصطفى صلى الله عليه وسلم على سائر الأديان ، وبيان التجارة الرابحة مع الرحمن الرحيم ، والبشارة بنصر أهل الإيمان على الكفر والخذلان .

وحدة الصف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 3 ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 ) }

المفردات :

سبح لله : نزهه عما لا يليق ومجّده ، ودلّ عليه .

1

1- { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .

جميع ما في السماوات ، من ملائكة وأجرام وكواكب ، وشموس وأقمار ، وجميع ما في الأرض من الحيوانات والنباتات وغيرهما ، يسبّح لله بلسان الحال ، فوجود هذا النظام البديع ، من سماء مرفوعة ، وأرض مبسوطة وجبال راسية ، وبحار جارية ، وهواء وفضاء ونبات ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، وظلام ونور ، كل ذلك يدل على وجود قدرة عالية تمسك بنظام هذا الكون وتحفظ توازنه .

وقد يكون التسبيح بلسان المقال ، بمعنى أن يخلق الله في هذه الكائنات وسائل للتسبيح والتعظيم لله ، كما قال تعالى : { وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لاّ تفقهون تسبيحهم . . . }( الإسراء : 44 ) .