التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الصف :

في السورة كسابقاتها تقرير بتسبيح كل ما في السماوات والأرض لله وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون . ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل الله وإيذان بحب الله لمن يفعلون ذلك . وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه السلام من إزعاج وأذى . وحكاية لقول عيسى عليه السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعده . وإيذان بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان . وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل الله وحث على الجهاد . ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين الله .

وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد{[1]} .

وقد قال الزمخشري : إن السورة مكية . وروى بعضهم هذا عن عطاء أيضا{[2]} . وهذا عجيب وفيه مثال للاهتمام بالرواية أكثر من النص . فحث المؤمنين على الجهاد والقتال في السورة والتنديد بالمقصرين فيه يجعلان احتمال مكيتها مستحيلا ؛ لأن القتال إنما فرض وحرض عليه بعد الهجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن للمسلمين في مكة حتى ولا بمقابلة المشركين بأذى على آذاهم ، وقد هدأهم القرآن وطلب منهم التسامح في آية سورة الجاثية هذه { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } ( 14 ) على ما شرحناه في سياقها ، وإلى هذا المعنى أشارت آية سورة النساء هذه { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً 77 } .

وفي السورة آيات قد تكون قرينة على كوزنها نزلت قبيل صلح الحديبية ووقعة خيبر .

وهاتان الوقعتان قد أشير إليهما في سورة الفتح التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة ؛ حيث يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيبها . والله اعلم .

ولقد ذكر المفسر الطبرسي : إن السورة تسمى بسورة الحواريين وبسورة عيسى عليه السلام ولم يذكر لذلك سندا .

بسم الله الرحمان الرحيم :

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ( 3 ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( 4 ) } .

عبارة الآيات واضحة ، والآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها .

والآيتان الثانية والثالثة احتوتا عتبا وتنديدا موجها إلى المسلمين الذين لا ينفذون بالفعل ما يقولونه ويعدون به باللسان ، وتنبيها إلى ما فيه هذا من موجبات مقت الله الكبير وغضبه ، أما الآية الرابعة فقد احتوت حثا على القتال في سبيل الله بعزم وتراص وتضامن وإيذانا بأن الله يحب الذين يفعلون ذلك .

وقد تلهم هذه الآية أن التنديد السابق هو للذين يعدون بالقتال ، ولا يقاتلون وهذا ما روته الروايات كسبب من أسباب النزول على ما سوف نذكره بعد هذا .

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وما فيها من صور وتلقين :

ولقد روى المفسرون{[2207]} روايات عديدة في سبب نزول الآيات وفي من عنته ، منها أنها في المنافقين بسبب إخلافهم ما وعدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاشتراك في القتال والتضامن مع سائر المسلمين فيه . ومنها أنها نزلت في جماعة كانوا يتبجحون بأنهم قاتلوا وجهدوا كذبا . ومنها أنها نزلت في شخص ادعى كذبا بأنه قتل شخصا كافرا في حين أن الذي قتله شخص آخر ، ومنها أنها نزلت في جماعة من المسلمين لم يشهدوا وقعة بدر ، فلما سمعوا ما أعد الله لشاهديها من أجر ، وما كان من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وعدوا بالقتال مثلهم حتى يحرزوا درجتهم في أول حرب ، ثم انهزموا في واقعة أحد ومنها ما روي في حديث عن عبد الله بن سلام الصحابي بطرق عديدة ، مع اختلاف في الصيغة ، وقد جاء في بعض هذه الصيغ التي أخرجها ابن أبي حاتم أن عبد الله ابن سلام قال : ( إن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ، فلم يذهب إليه أحد منا ، وهبنا أن نسأله عن ذلك ، فدعا رسول الله أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة الصف ، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها{[2208]} وهناك رواية عن مقاتل أوردها ابن كثير جاء فيها ( قال المؤمنون : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } فبين لهم فابتلوا بيوم أحد بذلك فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } .

والرواية الأخيرة لأنها تجعل نزول الآية الثالثة مقدما على نزول الآية الثانية .

والتنديد الشديد في الآيات يدل كما هو ظاهر على أنها في صدد جماعة كانوا يعدون بالجهاد ثم يخلفون . وهذا متسق مع بعض الروايات ، ولقد حكت آيات عديدة في سورة آل عمران والأحزاب والنساء والنور مثل ذلك عن المنافقين . وفي سورة الأحزاب آية صريحة في ذلك { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } أن المقصود في الآيات منهم وفي سورة النور آية صريحة أخرى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون } .

وشدة التنديد تدل على أن موقف المندد بهم كان مثيرا للمقت والسخط ، إما بتكرره وإما في ظروفه ، وهذا لا يكون على الأرجح إلا من المنافقين ولعل الآيات تنطوي على تقرير كون هذا الموقف مما آلم النبي صلى الله عليه سلم وآذاه . وقد يكون في الآيات التالية التي تذكر بمواقف قوم موسى المؤذية من نبيهم رغم اعترافهم بنبوته وتندد بهم وتصفهم بالفسق والانحراف قرينة على ذلك ، والله اعلم .

وأسلوب الآيات عام ، وتلقينها مستمر المدى لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان وقوة الآيات تهز النفس هزا شديدا سواء بإيذانها بمحبة الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أم بشدة مقت الله الذين يقولون ما لا يفعلون ، وفي القرآن آيات كثيرة جدا في الأمرين أي في التنديد بالمتثاقلين عن الجهاد المثبطين عنه المخلفين بوعودهم به والتنويه بالذين يقاتلون بصدق وإخلاص ، وقد جاء كثير منها في سور سبق تفسيرها . ومنها ما جاء في سور نزلت بعد هذه السورة ؛ حيث يدل كل ذلك على ما أعاره القرآن الكريم من عناية عظمى لهذا الركن العظيم الذي كتب على المسلمين لما فيه من حياطة أمرهم وقوام وجودهم وكرامتهم وأمنهم وسلامتهم وعزة الإسلام وقوته .

وقد تكون جملة { يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص4 } قد عنت أسلوبا من أساليب القتال في ذلك الزمن . ولكن المتبادر أن فيها تلقينا واسع المدى وشاملا ، بحيث يتناول مقاتلة العدو وبكل أسلوب يضمن النصر عليه بكل وسيلة من وحدة القوى المادية والمعنوية وأساليب الحرب المتنوعة ومن التعاون التام بين المسلمين في كل ذلك ومن بذل كل ما يمكن من الاستعداد والأموال ومن إظهار كل ما يجب من عزيمة وتصميم دون ترك أي ثغرة في ذلك . وفي القرآن آيات فيها هذا التوجيه بصراحة ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات البقرة ( 195 ) والنساء ( 75 و 76 و 104 } والأنفال ( 60 ) ومحمد ( 38 ) .

ولقد قال غير واحد من المفسرين{[2209]} : إن الآيتين الثانية والثالثة عامة الشمول لكل إخلاف بوعد أو نكول عن عهد ونذرا أو قول يكذبه الفعل . وقد يكون في هذا وجاهة بسبب الأسلوب المطلق الذي جاءت عليه الآيتان . مع التنبيه على أن الآية الثالثة التي هي منسجمة معها تلهم أن الآيات تهدف بالدرجة الأولى إلى التنديد بالذين يخلفون وعودهم بالقتال في سبيل الله والصدق فيه . وقد قال ابن كثير : إن الجمهور قد حملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرض الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم . مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه ، ومع ذلك فإن القول بالنسبة للآيتين بخاصة يظل يحتفظ بوجاهته البديهية ، من حيث استحقاق الذين يكذبون في أقوالهم ولا ينفذون عهودهم ووعودهم ويخلفون فيها التنديد الرباني المنطوي في الآيتين . فالقرآن قد حظر وشجب الكذب والنكث والإخلاف ولعن الكاذبين وندد بالناكثين والمخلفين . في آيات كثيرة مكية ومدنية في سور عديدة سبق تفسيرها . والأحاديث النبوية المتساوقة مع ذلك كثيرة أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة . وهناك حديثان مهمان رواهما الأربعة البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود يحسن أن نعيد إيرادهما واحد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ) وواحد رواه عبد الله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها ، إذا حدث كذب . وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر ) حيث يفيدان أن الأخلاق التي نددت بها الآيتان وقررت استحقاق صاحبها لمقت الله الشديد هي صفات المنافقين دون المؤمنين الصادقين المخلصين .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[2207]:انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير
[2208]:هذا النص من ابن كثير وقد أورد هذا المفسر نصا آخر أخرجه الإمام أحمد بطريق آخر مقارب لهذا النص، وقد روى الترمذي نصا آخر ليس فيه إشارة تفيد أن السورة جميعها نزلت في هذه المناسبة كما ليس فيه ما ينفي ذلك؛ حيث جاء فيه عن عبد الله ابن سلام (قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله (سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم 1 يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون 2} التاج فصل التفسير ج 4 ص 233
[2209]:انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والقاسمي