157- وأنزلناه حتى لا تقولوا أيضاً : لو أنا أُنزل علينا الوحي الذي نزل عليهم لكنا أكثر منهم هداية وأحسن حالا ، لسعة عقولنا وطيب استعدادنا . لا حُجة لكم بعد اليوم على عصيانكم ، ولا محل لقولكم هذا ، فقد جاءكم القرآن من ربكم علامة واضحة على صدق محمد ، ومبيناً لكم جميع ما تحتاجون إليه في دينكم ودنياكم ، وهادياً إلى الطريق السوي ، ورحمة لكم باتباعه . ولا يَكُنْ أحد أظلم ممن كذب بآيات الله التي أنزلها في كتبه ، وآياته التي خلقها في الكون ، وأعرض عنها فلم يؤمن ولم يعمل بها ، وسنعاقب الذين يعرضون عن آياتنا ، ولا يتدبرون ما فيها بالعذاب البالغ غايته في الإيلام ، بسبب إعراضهم وعدم تدبرهم .
قوله تعالى : { أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } ، وقد كان جماعة من الكفار قالوا ذلك لو أنا أنزل علينا ما أنزل على اليهود والنصارى لكنا خيراً منهم .
قوله تعالى : { فقد جاءكم بينة من ربكم } ، حجة واضحة ، بالغة تعرفونها .
قوله تعالى : { وهدىً } ، بيان .
قوله تعالى : { ورحمة } ، ونعمة لمن اتبعه .
قوله تعالى : { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف } أعرض .
قوله تعالى : { عنها } سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب } ، أي شدة العذاب . قوله تعالى : { بما كانوا يصدفون } يعرضون .
وقوله : { أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } أي : وقطعنا تَعَلُّلكم أن تقولوا : لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه ، كقوله : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ [ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ]{[11419]} } [ فاطر : 42 ] ، وهكذا قال هاهنا : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } يقول : فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي قرآن عظيم ، فيه بيان للحلال والحرام ، وهدى لما في القلوب ، ورحمة من الله بعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه .
وقوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } أي : لم ينتفع بما جاء به الرسول ، ولا اتبع ما أرسل به ، ولا ترك غيره ، بل صدف عن اتباع آيات الله ، أي : صرف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي .
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { وَصَدَفَ عَنْهَا } أعرض عنها .
وقول السدي هاهنا فيه قوة ؛ لأنه قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } كما تقدم في أول السورة : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ } [ الآية : 26 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } [ النحل : 88 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ }
وقد يكون المراد فيما{[11420]} قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } أي : لا آمن بها ولا عمل بها ، كقوله تعالى : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ القيامة : 32 ، 31 ] ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه ، وترك العمل بجوارحه ، ولكن المعنى الأول أقوى وأظهر ، والله [ تعالى ]{[11421]} أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنّآ أَهْدَىَ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن كَذّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوَءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، أو لئلا يقولوا : لَوْ أنّا أنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابَ كما أنزل على هاتين الطائفتين من قبلنا ، فأمرنا فيه ونهينا ، وبَيّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه . لَكُنّا أهْدَى مِنْهُمْ : أي لكنا أشدّ استقامة على طريق الحقّ واتباعا للكتاب ، وأحسن عملاً بما فيه من الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا . يقول الله : فَقَدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول : فقد جاءكم كتاب بلسانكم عربيّ مبين ، حجة عليكم واضحة بينة من ربكم . وَهُدًى يقول : وبيان للحقّ ، وفرقان بين الصواب والخطأ . وَرَحْمَةً لمن عمل به واتبعه . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكَتابُ لَكُنّا أهدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول : قد جاءكم بينة لسان عربيّ مبين ، حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين ، وحين قلتم : لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدَى مِنْهُمْ فهذا قول كفار العرب ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذّبَ بآياتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجزْي الّذِينَ يَصْدِفُونَ .
يقول جلّ ثناؤه : فمن أخطأُ فعلاً وأشدّ عدوانا منكم أيها المشركون ، المكذّبون بحجج الله وأدلته وهي آياته . وَصَدَفَ عَنْها يقول : وأعرض عنها بعد ما أتته ، فلم يؤمن بها ولم يصدّق بحقيقتها . وأخرج جلّ ثناؤه الخبر بقوله : فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذّبَ بآياتِ اللّهِ مخرج الخبر عن الغائب ، والمعنّى به المخاطبون به من مشركي قريش .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : وَصَدَفَ عَنْها قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَصَدَفَ عَنْها يقول : أعرض عنها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا : يعرضون عنها ، والصدف : الإعراض .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَصَدَفَ عَنْها أعرض عنها ، سَنَجْزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ أي يعرضون .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَصَدَفَ عَنْها فصدّ عنها .
وقوله : سَنَجزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الَعَذَابِ يقول : سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها ولا يتعرّفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله وحقية نبوّة نبيه وصدق ما جاءهم به من عند ربهم سُوءَ العَذَاب يقول : شديد العقاب ، وذلك عذاب النار التي أعدّها الله لكفرة خلقه به . بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ يقول : يفعل الله ذلك بهم ، جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .