قوله تعالى : { فإن تابوا } . من الشرك .
قوله تعالى : { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم } . أي فهم إخوانكم .
قوله تعالى : { في الدين } . لهم ما لكم وعليهم ما عليكم .
قوله تعالى : { ونفصل الآيات } . ونبين الآيات .
قوله تعالى : { لقوم يعلمون } . قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة . قال ابن مسعود : أمرتهم بالصلاة والزكاة ، فمن لم يزك فلا صلاة له .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، ثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، ثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر رضي الله عنه بعده ، وكفر من كفر من العرب ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله } . فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر رضي الله عنه : فوالله ما هو إلا أن قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عمرو بن عباس ، ثنا ابن المهدي ، ثنا منصور بن سعد ، عن ميمون بن سياه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله " .
ثم يبين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين :
( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) . .
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم ؛ ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك . لا يقعدهم عهد معقود ، ولا ذمة مرعية ، ولا تحرج من مذمة ، ولا إبقاء على صلة . . ووراء هذا التقرير تاريخ طويل ، يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل ، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم !
هذا التاريخ الطويل من الواقع العملي ؛ بالإضافة الى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج الله الذي يخرج الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة الله وحده ، وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد . . يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من الله سبحانه ، بهذا الحسم الصريح :
( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون )
فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون ، وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء . وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين ؛ وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة ، ويصبح المسلمون الجدد إخوانا للمسلمين القدامى ؛ ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب !
( ونفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .
فهذه الأحكام إنما يدركها ويدرك حكمتها الذين يعلمون وهم المؤمنين .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن أبي بكر ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته ، لا يشرك{[13276]} به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض ، وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هَرْج الأحاديث واختلاف الأهواء " . وتصديق ذلك في كتاب الله : { فَإِنْ تَابُوا } يقول : فإن خلعوا الأوثان وعبادتها { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وقال في آية أخرى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ }
ثم قال البزار : آخر الحديث عندي والله أعلم : " فارقها وهو عنه راض " ، وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس{[13277]}
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فإخوانكم في الدين }
تفريع حكم على حكم لتعقيب الشدّة باللين إن هم أقلعوا عن عداوة المسلمين بأن دخلوا في الإسلام لقصد مَحو أثر الحنق عليهم إذا هم أسلموا أعقب به جملة : { إنهم ساء ما كانوا يعملون } إلى قوله { المعتدون } [ التوبة : 9 ، 10 ] تنبيهاً لهم على أنّ تداركهم أمرهم هين عليهم ، وفرّع على التوبة أنّهم يصيرون إخواناً للمؤمنين . ولمّا كان المقام هنا لذكر عداوتهم مع المؤمنين جعلت توبتهم سبباً للأخوّة مع المؤمنين ، بخلاف مقام قوله قبله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] حيث إنّ المعقّب بالتوبة هنالك هو الأمر بقتالهم والترصّد لهم ، فناسب أن يفرّع على توبتهم عدم التعرّض لهم بسوء . وقد حصل من مجموع الآيتين أنّ توبتهم توجب أمنهم وأخُوّتهم .
ومن لطائف الآيتين أن جعلت الأخوة مذكورة ثانياً لأنّها أخصّ الفائدتين من توبتهم ، فكانت هذه الآية مؤكّدة لأختها في أصل الحكم .
وقوله : { فإخوانكم } خبر لمحذوف أي : فَهم إخوانكم . وصيغ هذا الخبر بالجملة الاسمية : للدلالة على أنّ إيمانهم يقتضي ثبات الأخوّة ودوامَها ، تنبيهاً على أنّهم يعودون كالمؤمنين السابقين من قبل في أصل الأخوّة الدينية .
والإخوان جمع أخ في الحقيقة والمجاز ، وأطلقت الأخوّة هنا على المودّة والصداقة .
والظرفية في قوله : { في الدين } مجازية : تشبيهاً للملابسة القوية بإحاطة الظرف بالمظروف زيادة في الدلالة على التمكّن من الإسلام وأنّه يَجُبُّ ما قبله .
اعتراض وتذييل ، والواو اعتراضية ، ومناسبة موقعه عقب قوله : { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } [ التوبة : 9 ] أنّه تضمّن أنّهم لم يهتدوا بآيات الله ونبذوها على علم بصحّتها كقوله تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } [ الجاثية : 23 ] ، وباعتبار ما فيه من فرض توبتهم وإيمانهم إذا أقلعوا عن إيثار الفساد على الصلاح ، فكان قوله : { ونفصل الآيات لقوم يعلمون } جامعاً للحالين ، دالاً على أنّ الآيات المذكورة آنفاً في قوله : { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } [ التوبة : 9 ] آيات واضحة مفصّلة ، وأنّ عدم اهتداء هؤلاء بها ليس لنقص فيها ولكنّها إنّما يهتدي بها قوم يعلمون ، فإن آمنوا فقد كانوا من قوم يعلمون . ويفهم منه أنّهم إن اشتروا بها ثمناً قليلاً فليسوا من قوم يعلمون ، فنُزّل علمهم حينئذ منزلة عدمه لانعدام أثر العلم ، وهو العمل بالعلم ، وفيه نداء عليهم بمساواتهم لغير أهل العقول كقوله : { وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .
وحُذف مفعول { يعلمون } لتنزيل الفعل منزلة اللازم إذ أريد به : لقوم ذوي علم وعقل .
وعطف هذا التذييل على جملة : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } لأنّه به أعلق ، لأنّهم إن تابوا فقد صاروا إخوانا للمسلمين ، فصاروا من قوم يعلمون ، إذ ساووا المسلمين في الاهتداء بالآيات المفصّلة .
ومعنى التفصيل تقدّم في قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } من سورة الأنعام ( 55 ) .