بعد هذا النفي والتقرير ، فهو إذن من صنع محمد . ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها ، و لا يملك من حروفها إلا ما يملكون . [ ألف . لام . ميم ] . . [ ألف . لام . را . ] . . [ ألف . لام . ميم . صاد ] . . . الخ . فدونهم إذن - ومعهم من يستطيعون جمعهم - فليفتروا ، كما افترى [ بزعمهم ] محمد . فليفتروا سورة واحدة لا قرآنا كاملا :
( قل : فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
وقد ثبت هذا التحدي ؛ وثبت العجز عنه . وما يزال ثابتا ولن يزال . والذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان . وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة . . كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد ، أو مجموعة العقول في جيل واحد او في جميع الأجيال . ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه . .
فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها . .
والذين زاولوا فن التعبير ، والذين لهم بصر بالأداء الفني ، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداءالقرآني من إعجاز في هذا الجانب . والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي ، والإنساني بصفة عامة ، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً .
ومع تقدير العجز سلفا عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه ؛ والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري . ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز - في حدود الطاقة البشرية - هو موضوع كتاب مستقل . فسأحاول هنا أن ألم المامة خاطفة بشيء من هذا . .
إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري . . إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري ؛ حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً . . وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول - وإن لم تكن هي القاعدة - ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل . . ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري ؛ ولكني أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة ، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً . . كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم . . وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة ! والله يعلم - أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة ؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا ! . . وقد يسر لنا قائد السفينة - وكان إنجليزياً - أن نقيم صلاتنا ؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها - وكلهم نوبيون مسلمون - أن يصلي منهم معنا من لا يكون في " الخدمة " وقت الصلاة ! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً ، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة . . وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ؛ والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون يرقبون صلاتنا ! . . وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح " القدّاس " ! ! ! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا ! ولكن سيدة من هذا الحشد - عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم " تيتو " وشيوعيته ! - كانت شديدة التأثر والانفعال ، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها . جاءت تشد على أيدينا بحرارة ؛ وتقول : - في إنجليزية ضعيفة - إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح ! . . وليس هذا موضع الشاهد في القصة . . ولكن ذلك كان في قولها : أي لغة هذه التي كان يتحدث بها " قسيسكم " ! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم " الصلاة " إلا قسيس - أو رجل دين - كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة ! وقد صححنا لها هذا الفهم ! . . وأجبناها : فقالت : إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب ، وإن كنت لم أفهم منها حرفا . . ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول : ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه . . إن الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن " الإمام " كانت ترد في أثناء كلامه - بهذه اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه ! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا . . هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة ! إنها شيء آخر ! كما لو كان - الإمام - مملوءا من الروح القدس ! - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها ! - وتفكرنا قليلا . ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة ! وكانت - مع ذلك - مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة ، من سيدة لا تفهم مما تقول شيئا
وليست هذه قاعدة كما قلت . ولكن وقوع هذه الحادثة - ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد - ذو دلالة على أن في هذا القرآن سراً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته . وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها ، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها ، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب . . ولكنما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء ، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه - وسره هذا - وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية ! ! !
ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب . قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير . ومن يزاولون التفكير والشعور !
إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض ، وذلك بأوسع مدلول ، وأدق تعبير ، وأجمله وأحياه أيضا ! مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو . ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد ، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه ، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال . ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد ، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلا ؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال . ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعا .
وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني . . هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص ؛ وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات ؛ وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها . بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى ؛ ويبدو في كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه ؛ وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع ! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها [ ولو راجع القارىء المقتطفات الواردة في التعريف بهذه السورة لوجد أن النص الواحد يرد للدلالة على أغراض شتى ، وهو في كل مرة أصيل في موضعه تماما . وليس هذا إلا مثالا ] .
وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد ، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضراً ، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر ؛ ولا يملك الأداء البشري تقليدها . لأنه يبدو في هذه الحالة مضطرباً غير مستقيم مع أسلوب الكتابة ! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلا في مثل هذه المواضع :
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده - بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . . [ وإلى هنا هي قصة تحكى ] . . ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر . . ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ? ! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) . . ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر : ( وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) . .
( قل : أي شيء أكبر شهادة . قل الله ، شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) . . وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى . . ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم : ( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ? )
وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه - وأجابوه ! - : ( قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .
وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات : ( ويوم يحشرهم جميعا . . يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس . . وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا . قال : النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ، إن ربك حكيم عليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ? . . قالوا : شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . . ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون )
وأمثالها كثير في القرآن كله . وهو أسلوب متميز تماما من الأسلوب البشري . وإلا فمن شاء أن يماري ، فليحاول أن يعبر على هذا النحو ، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم ؛ فضلا على أن يكون له هذا الجمال الرائع ، وهذا الإيقاع المؤثر ، وهذا التناسق الكامل !
هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعا . ويبقى الإعجاز الموضوعي ؛ والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها ؛ فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة . وقلبها الشاعرة مرة . وحسها المتوفز مرة . ولكنه يخاطبها جملة ، ويخاطبها من أقصر طريق ؛ ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها . . وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها ، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق ، وبهذا الشمول ، وبهذه الدقة وهذا الوضوح ، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضاً !
وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب : " خصائص التصور ومقوماته " تعين على توضيح هذه الحقيقة ؛ وهي تتحدث عن " المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي " في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة ، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض :
أولا : بكونه يعرض الحقيقة - كما هي في عالم الواقع - في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها ، وكل جوانبها ، وكل ارتباطاتها ، وكل مقتضياتها . . وهو - مع هذا الشمول - لا يعقد هذه الحقيقة ، ولا يلفها بالضباب ! بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها . . ولم يشأ الله - سبحانه - رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها ، متوقفا على سابق علم لهم . . إطلاقا . . لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى ؛ والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله ؛ ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم ، ولطلب أية معرفة . . لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفا على علم سابق . ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم - بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم ، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم - كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن . ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه - عن غير هذا المصدر - هو معرفة - " ظنية " ونتائج " محتملة " لا " قطعية " حتى ذلك " العلم التجريبي " . فطريق العلم التجريبي هو القياس - لا الاستقراء والاستقصاء - فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة . هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر ! إنما قصارى " العلم " أن يقوم بعدد من التجارب ، ثم يقيس على نتائجها . والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية [ وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة ، تقوم على ترجيح أحد " الاحتمالات " لا على القطع الحتمي ] . . فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير ، والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين .
ثانيا : بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات " العلمية " والتأملات " الفلسفية " والومضات " الفنية " جميعا . فهو لا يفرد كل جانب من جوانب [ الكل ] الجميل المتناسق بحديث مستقل . كما تصنع أساليب الأداء البشرية . وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول ؛ يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب . وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية . وتتصل فيه الدنيا بالآخرة . وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى . . في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده ؛ لأن الأسلوب البشري عندما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة ، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة ، كما تبدو في المنهج القرآني !
" وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد ؛ قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع . ولكن هذا الترابط يبدو دائما . فعندما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلا على تعريف الناس بربهم الحق ، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان . في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء . . وعندما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون ، تتجلى العلاقة بين " حقيقة الألوهية " و " حقيقة الكون " ، ويتطرق السياق كثيرا إلى حقيقة الحياة والأحياء ، وإلى سنن الله في الكون والحياة . . وعندما يكون التركيز على " حقيقة الإنسان " يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء ، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء . . وعندما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى . . وكذلك عندما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا . . إلى آخر هذا النسق من العرض ، الواضح الملامح في القرآن .
ثالثا : بكونه - مع تماسك جوانب " الحقيقة " وتناسقها - يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها - في الكل المتناسق - مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله - وهو الميزان - ومن ثم تبدو " حقيقة الألوهية " وخصائصها ، وقضية " الألوهية والعبودية " بارزة مسيطرة محيطة شاملة ؛ حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي . . وتشغل حقيقة عالم الغيب - بما فيه القدر والدار الآخرة - مساحة بارزة . ثم تنال حقيقة الإنسان ، وحقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع . . وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق ، ولا تهمل ، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق . . وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته - كما بينا في فصل " التوازن " في القسم الأول - حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسهوتناسق أجزائه وقوانينه إلى تألهه - كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديماً وحديثاً ! - ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها الى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها - كأصحاب المذهب الحيوي ! - ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان ، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنه في كيانه المنطلقة في تعامله مع الكون ، إلى تأليه الإنسان - أو العقل - في صورة من الصور - كالمثاليين في عمومهم ! - ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني - كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة - . . كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته ، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد ! وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني !
رابعاً : بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية - مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم ، وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً ، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير . ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة ، وتحديد حاسم ؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال ، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة !
" ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري ، ملامح المنهج القرآني ، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج . كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن " خصائص التصور الإسلامي ومقوماته " شيئاً مما يبلغه القرآن في هذا الشأن . . وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ؛ ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات ، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن ، بينما هم ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك . ومن ثم لم يعد الناس قادرين على تذوق المنهج القرآني ذاته ، والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته " . . . انتهت المقتطفات . .
والقرآن يقدم حقائق العقيدة - أحياناً - في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها ، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو .
من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته . .
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . .
فهذه المطارح المترامية ، الخفية والظاهرة ، ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو ؛ وهو في معرض تصوير شمول العلم ؛ مهما أراد تصوير هذا الشمول . ولو أن فكراً بشرياً هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته . . وذلك كما قلنا في تفسير هذه الآية من قبل في الجزء السابع :
" ننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن .
ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع - موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق . . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض ? إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصى ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق !
" وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : ( ولا رطب ولا يابس ) . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الإنتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس معهوداً في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك ! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !
" ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ؛ وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين ، وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا ? وما فائدته لهم ? وما احتفالهم بتسجيله ? إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
" إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً ، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً ، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري ، وكذلك لا تلحظه العين البشرية ؛ ولا تلم به النظرة البشرية . . إن هذا المشهد إنما يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ، المشرف على كل شيء ، المحيط بكل شيء ، الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
" والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضاً . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد ، لا يخطر على القلب البشري ؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الإتجاه أصلاً !
" وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم " . .
" كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته ، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر ، على هذا المستوى السامق : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . آماد وآفاق وأغوار في " المجهول " المطلق . في الزمان والمكان ، وفي الماضي والحاضر والمستقبل وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان .
( ويعلم ما في البر والبحر ) . . آماد وآفاق وأغوار في " المنظور " على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود والمشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .
( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) . . حركة الموت والفناء ؛ وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل ، ومن حياة إلى اندثار .
( ولا حبة في ظلمات الأرض ) . . حركة البزوغ والنماء ، المنبثقة من الغور إلى السطح ، ومن كمون وسكون إلى إندفاع وانطلاق .
( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . التعميم الشامل ، الذي يشمل الحياة والموت . والازدهار والذبول ، في كل حي على الإطلاق . .
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق ? من ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال ? . . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله ، في مثل هذا النص القصير . . من ? إلا الله ? !
كذلك هذا النص الآخر عن شمول علم اللّه :
( يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور ) . .
ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة ؛ فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء ، والحركات ، والأحجام ، والأشكال ، والصور ، والمعاني ، والهيئات ، لا يصمد لها الخيال !
ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة ، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين !
فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض ? وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها ? وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء ? وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها ?
كم من شيء يلج في الأرض ? كم من حبة تختبيء أو تخبأ في جنبات هذه الأرض ? كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية ? كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز ، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة ? وكم وكم مما يلج في الأرض ، وعين الله عليه ساهرة لا تنام ? !
وكم يخرج منها ? كم من نبتة تنبثق ? وكم من نبع يفور ? وكم من بركان يتفجر ? وكم من غاز يتصاعد ? وكم من مستور يتكشف ? وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور ? وكم وكم مما يرى ومما لا يرى ، ومما يعلم البشر ومما يجهلونه وهو كثير ? ?
وكم مما ينزل من السماء ? كم من نقطة مطر ? وكم من شهاب ثاقب ? وكم من شعاع محرق ? وكم من شعاع منير ? وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور ? وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد ? وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر ? . . وكم وكم مما لا يحصيه إلا اللّه ?
وكم مما يعرج فيها ? كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان ? وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه ?
وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة ? وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله ? وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله ?
ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر ، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم ? وكم وكم مما لا يعلمه سواه ? !
كم في لحظة واحدة ? وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء ? وعلم الله الكامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان . . وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وماله من حركات وسكنات تحت عين الله ، وهو مع هذا يستر ويغفر . .
وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر . فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر . ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر ، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود التي لا تشبهها صنعة العبيد !
كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها ؛ وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . . كما يبدو في قوله تعالى :
( نحن خلقناكم فلولا تصدقون ! أفرأيتم ما تمنون ? أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ? نحن قدرنا بينكمالموت وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأة الأولى ، فلولا تذكرون ! )
( أفرأيتم الماء الذي تشربون ? أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ? لو نشاء جعلناه أجاجاً ، فلولا تشكرون ! )
( أفرأيتم النار التي تورون ? أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ? نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين . )
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة ، قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود ، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود ، كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير ، وحياة للأرواح والقلوب ، ويقظة في المشاعر والحواس . يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها ، ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها !
إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة . كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم ، ولا عن مألوف حياتهم ، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم . . إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة ، أو مشكلات عقلية عويصة ، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد . . لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة ، وتصورا للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة .
إن أنفسهم من صنع الله ؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته . والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده . وهذا القرآن قرآنه . ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم ، والمبثوثة في الكون من حولهم . يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم ، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها . لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها . يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها ، فتطلع على السر الهائل المكنون فيها . سر القدرة المبدعة ، وسر الوحدانية المفردة ، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم ؛ والذي يحمل دلائل الإيمان ؛ وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم ، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق .
وعلى هذا المنهج يسير ، وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم . وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم . وفي الماء الذي يشربون . وفي النار التي يوقدون - وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم - كذلك يصور لهم لحظة النهاية . نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر . اللحظة التي يواجهها كل أحد ، والتي تنتهي عندها كل حيلة ، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة ، لا محاولة فيها ولا مجال ! حيث تسقط جميع الأقنعة ، وتبطل جميع التعلات .
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره . . إنه المصدر الذي صدر منه الكون . فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون . فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال ، وأضخم الخلائق . . الذرة يظن أنها مادة بناء الكون ؛ والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة . . والذرة على صغرها معجزة في ذاتها ؛ والخلية على ضآلتها آية في ذاتها . . وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني . . المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل . الزرع . والماء . والنار . والموت . . أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه ? أي ساكن كهف لم يشهدنشأة حياة جنينية ، ونشأة حياة نباتية . ومسقط ماء . وموقد نار . ولحظة وفاة ? . . من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة ، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة . . وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية ، وأعظم الأسرار الربانية ؛ فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان ؛ وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان .
ولسنا نملك المضي أبعد من هذا في بيان طبيعة " هذا القرآن " الدالة على مصدره . ففي هذا القدر كفاية لنعود إلى سياق السورة . .
( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه . . . ) .
( أم يقولون افتراه ? قل : فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله ، وقلتم كذبًا ومَيْنا : " إن هذا من عند محمد " ، فمحمد بشر مثلكم ، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن ، فأتوا أنتم بسورة{[14231]} مثله ، أي : من جنس القرآن ، واستعينوا على ذلك بكل من قَدرتم عليه من إنس وجان .
وهذا هو المقام الثالث في التحدي ، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم ، إن كانوا صادقين في دعواهم ، أنه من عند محمد ، فلتعارضوه{[14232]} بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن شئتم{[14233]} وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ، ولا سبيل لهم إليه ، فقال تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] ، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه ، فقال في أول سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ] {[14234]} ، ثم تنازل إلى سورة ، فقال في هذه السورة : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } {[14235]} وكذا في سورة البقرة - وهي مدنية - تحداهم بسورة منه ، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا ، فقال : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ } الآية : [ البقرة : 24 ] .
هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم ، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ، ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَلَ لأحد به ، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته ، وجزالته وطلاوته ، وإفادته وبراعته ، فكانوا أعلم الناس به ، وأفهمهم له ، وأتبعهم له وأشدهم{[14236]} له انقيادا ، كما عرف السحرة ، لعلمهم{[14237]} بفنون السحر ، أن هذا الذي فعله موسى ، عليه السلام ، لا يصدر إلا عن مُؤيَّد مُسَدد مرسل من الله ، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله . وكذلك عيسى ، عليه السلام ، بُعِث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى ، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه ، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله{[14238]} ورسوله ؛ ولهذا جاء في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا{[14239]} .
وقوله : { أم يقولونه افتراه } الآية ، { أم } هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو ، وإنما هي تتوسط الكلام ، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهاماً وإضراباً عما تقدم ، وهي كقوله : إنها لا بل أم شاء ، وقالت فرقة في { أم } هذه : هي بمنزلة ألف الاستفهام ، ثم عجزهم في قوله { قل فأتوا بسورة مثله } والسورة مأخوذة من سورة البناء{[6110]} وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم ، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن : إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة ، كل ذلك في التعريف بالحقائق ، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل ، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده .
قال القاضي أبو محمد : هكذا قول جماعة من المتكلمين ، وفيه عندي نظر ، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب رداً على قولهم { افتراه } ، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق ، وما ألزموا قط إتياناً بغيب ، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله
{ وهم من بعد غلبهم سيغلبون }{[6111]} وكقوله { لتدخلن المسجد الحرام }{[6112]} ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك ، وأما التحدي بالنظم فبين أيضاً أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علماً ، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود ، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول ، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم ، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية ، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول ، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته - وهي الحوليات - يبدل فيها ويقدم ويؤخر ، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح ، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل ، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى ، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره ، كفعل الفرزدق في أبيات جرير ، والجارية في شعر الأعشى ، وقول الأعرابي «عرفجكم »{[6113]} فقطع ، ونحو ذلك مما إذا تتبع بان . والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين «اطراد النظم والسرد ، وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل ، فأما مثل قوله تعالى : { مدهامتان }{[6114]} وقوله { ثم نظر }{[6115]} فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه ، وقوله { مثله } صفة للسورة والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر ، كأنه قال : فأتوا بسورة مثل القرآن أي في معانيه وألفاظه{[6116]} ، وخلطت فرق في قوله » مثله «من جهة اللسان كقول الطبري : ذلك على المعنى ، ولو كان على اللفظ لقال : » مثلها « ، وهذا وهم بيّن لا يحتاج إليه ، وقرأ عمرو بن فائد » بسورةِ مثلهِ « ، على الإضافة ، قال أبو الفتح : التقدير بسورة كلام مثله{[6117]} ، قال أبو حاتم : أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة » سورة «أو تنوينها فقال له عمر كيف شئت ، وقوله { وادعوا من استطعتم } إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك ، وهو كقوله في الآية الأخرى ، { لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً }{[6118]} أي معيناً ، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزاً لهم .
{ أم } للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجيبي ، وهو ارتقاء بإبطال دعواهم أن يكون القرآن مفترًى من دون الله .
ولما اختصت { أم } بعطف الاستفهام كان الاستفهام مقدراً معها حيثما وقعت ، فالاستفهام الذي تشعر به ( أم ) استفهام تعجيبي إنكاري ، والمعنى : بل أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء .
ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب ، وبتشريف نسبته إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيبي .
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن دعوى الافتراء بتعجيزهم ، وأن يقطع الاستدلال عليهم ، فأمرهم بأن يأتوا بسورة مثله . والأمر أمر تعجيز ، وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن ، أي تشابهه في البلاغة وحسنِ النظم . وقد تقدم تقرير هذه المماثلة عند تفسير قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله في سورة البقرة ( 23 ) .
وقوله : وادْعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين هو كقوله في آية البقرة ( 23 ) : { وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } ، ومعنى { صادقين } هنا ، أي قولكم أنه افترى ، لأنه إذا أمكنه أن يفتريه أمكنكم أنتم معارضته فإنكم سواء في هذه اللغة العربية .
وحذف مفعول { استطعتم } لظهوره من فعل ( ادْعوا ) ، أي من استطعتم دعوته لنصرتكم وإعانتكم على تأليف سورة مثل سور القرآن .