قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } الآية .
لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن ، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى ، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام ، على سبيل الإنكار ، إبطال هذا القول ، فقال : " أم يقولون افتراه " ، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة ، عند قوله : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] .
قوله : " أم يقُولُونَ " : في " أمْ " هذه وجهان :
أحدهما : أنَّها منقطعةٌ ، فتقدَّر ب " بَلْ " ، والهمزة عند سيبويه ، وأتباعه ، والتقدير : بل أتقُولُون ، انتقل عن الكلامِ الأول ، وأخذ في إنكار قولٍ آخر .
واثاني : أنَّها متصلةٌ ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ ؛ ليصحَّ التعادلُ ، والتقدير : أيقرون به ، أم يقولون افتراهُ ، وقال بعضهم : " أمْ " هذه بمنزلة الهمزة فقط ، وعبَّر بعضهم عن ذلك ، فقال : " الميمُ زائدة على الهمزة " وهذا قولٌ ساقطٌ ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً ، ولا سيَّما هنا ، وزعم أبو عبيدة : " أنها بمعنى : الواو ، والتقدير : ويقولون افتراه " .
قوله : " قُلْ فَأْتُواْ " : جواب شرطٍ مقدَّر ، قال الزمخشري : " قُلْ : إنْ كان الأمرُ كما تزعمون ، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله ، فأنتم مثلي في العربيَّة ، والفصاحة ، والأبلغيَّة " .
وقرأ{[18462]} عمرو بن فائد : " بسُورَةِ مثلِهِ " بإضافة " سُورة " إلى " مِثلِهِ " على حذف الموصول ، وإقامة الصِّفة مقامه ، والتقدير : بسورة كتاب مثله ، أو بسُورة كلام مثله ، ويجُوز أن يكون التقديرُ : فأتُوا بسورةِ بشر مثله ، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على ا لقرآنِ ، وأن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا في قراءة العامَّة ؛ فالضمير للقرآن فقط .
فإن قيل : لِمَ قال في البقرة : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، وقال هنا : " فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ " ؟ .
فالجواب : أنَّ محمداً - عليه الصلاة والسلام - كان أمِّيّاً ، لم يتلمذْ لأحدٍ ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة : " مِن مثله " أي : فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّدا في هذه الصِّفات ، وعدم الاشتعال بالعُلُوم ، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة ، وحيث لا يقدرُون على ذلك ؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، في عدم التتلمذ والتَّعلم ، يكون معجزاً .
وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها ؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا ؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور ؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا : " فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ " .
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية : على أنَّ القرآن مخلوقٌ ؛ قالوا : إنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّى العرب بالقرآن ؛ والمراد بالتَّحدِّي : أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم ؛ فإذا عجزوا عنه ، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى - ، دالَّة على صدقه ، وهذا إنَّما يمكن ، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان القرآنُ قديماً ؛ لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به .
وأجيبُوا : بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة ، القائمة بذات الله - تعالى - ، وعلى هذه الحروف والأصوات ، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات ، محدثة مخلوقة ، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة .
ثم قال تعالى : { وادعوا مَنِ استطعتم } : ممَّنْ تعبدُون { من دُونِ اللهِ } ليُعينُوكُم على ذلك ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أنَّ محمداً افتراه ، والمراد منه : كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة ، لو كانوا قادرين عليها وتقريره : أنَّ الجماعة إذا تعاونت ، وتعاضدت ، صارت تلك العقول الكثيرة ، كالعقل الواحد ، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده ، فكأنَّه - تعالى - يقول : هَبْ أنَّ عقل الواحد ، والاثنين منكم ، لا يفي باستخراج معارضة القرآن ، فاجتمعوا ، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة ، فإذا عرفتُم عجزكم حالة الاجتماع ، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة ، فحينئذٍ : يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة ، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها ؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله ، لا فعل البشر .
فظهر بما تقرَّر : أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستٌّ :
أولها : أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن ، في قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] .
وثانيها : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّاهم بعشر سورٍ ، في قوله : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] .
وثالثها : أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة ، في قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] .
ورابعها : تحدَّاهم بحديث مثله ، في قوله { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] .
وخامسها : أنَّ في تلك المراتب الأربع ، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم ، ثُمَّ في سورة يونس : طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان ، سواء تعلَّم العلوم ، أو لم يتعلَّمها .
وسادساً : أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق ، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم ، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة ، كما قال : { وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } [ يونس : 38 ] ، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.