اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (38)

قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } الآية .

لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن ، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى ، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام ، على سبيل الإنكار ، إبطال هذا القول ، فقال : " أم يقولون افتراه " ، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة ، عند قوله : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] .

قوله : " أم يقُولُونَ " : في " أمْ " هذه وجهان :

أحدهما : أنَّها منقطعةٌ ، فتقدَّر ب " بَلْ " ، والهمزة عند سيبويه ، وأتباعه ، والتقدير : بل أتقُولُون ، انتقل عن الكلامِ الأول ، وأخذ في إنكار قولٍ آخر .

واثاني : أنَّها متصلةٌ ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ ؛ ليصحَّ التعادلُ ، والتقدير : أيقرون به ، أم يقولون افتراهُ ، وقال بعضهم : " أمْ " هذه بمنزلة الهمزة فقط ، وعبَّر بعضهم عن ذلك ، فقال : " الميمُ زائدة على الهمزة " وهذا قولٌ ساقطٌ ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً ، ولا سيَّما هنا ، وزعم أبو عبيدة : " أنها بمعنى : الواو ، والتقدير : ويقولون افتراه " .

قوله : " قُلْ فَأْتُواْ " : جواب شرطٍ مقدَّر ، قال الزمخشري : " قُلْ : إنْ كان الأمرُ كما تزعمون ، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله ، فأنتم مثلي في العربيَّة ، والفصاحة ، والأبلغيَّة " .

وقرأ{[18462]} عمرو بن فائد : " بسُورَةِ مثلِهِ " بإضافة " سُورة " إلى " مِثلِهِ " على حذف الموصول ، وإقامة الصِّفة مقامه ، والتقدير : بسورة كتاب مثله ، أو بسُورة كلام مثله ، ويجُوز أن يكون التقديرُ : فأتُوا بسورةِ بشر مثله ، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على ا لقرآنِ ، وأن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا في قراءة العامَّة ؛ فالضمير للقرآن فقط .

فإن قيل : لِمَ قال في البقرة : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، وقال هنا : " فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ " ؟ .

فالجواب : أنَّ محمداً - عليه الصلاة والسلام - كان أمِّيّاً ، لم يتلمذْ لأحدٍ ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة : " مِن مثله " أي : فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّدا في هذه الصِّفات ، وعدم الاشتعال بالعُلُوم ، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة ، وحيث لا يقدرُون على ذلك ؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، في عدم التتلمذ والتَّعلم ، يكون معجزاً .

وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها ؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا ؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور ؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا : " فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ " .

فصل

تمسَّك المعتزلة بهذه الآية : على أنَّ القرآن مخلوقٌ ؛ قالوا : إنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّى العرب بالقرآن ؛ والمراد بالتَّحدِّي : أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم ؛ فإذا عجزوا عنه ، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى - ، دالَّة على صدقه ، وهذا إنَّما يمكن ، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان القرآنُ قديماً ؛ لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به .

وأجيبُوا : بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة ، القائمة بذات الله - تعالى - ، وعلى هذه الحروف والأصوات ، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات ، محدثة مخلوقة ، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة .

ثم قال تعالى : { وادعوا مَنِ استطعتم } : ممَّنْ تعبدُون { من دُونِ اللهِ } ليُعينُوكُم على ذلك ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أنَّ محمداً افتراه ، والمراد منه : كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة ، لو كانوا قادرين عليها وتقريره : أنَّ الجماعة إذا تعاونت ، وتعاضدت ، صارت تلك العقول الكثيرة ، كالعقل الواحد ، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده ، فكأنَّه - تعالى - يقول : هَبْ أنَّ عقل الواحد ، والاثنين منكم ، لا يفي باستخراج معارضة القرآن ، فاجتمعوا ، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة ، فإذا عرفتُم عجزكم حالة الاجتماع ، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة ، فحينئذٍ : يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة ، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها ؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله ، لا فعل البشر .

فظهر بما تقرَّر : أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستٌّ :

أولها : أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن ، في قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] .

وثانيها : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - تحدَّاهم بعشر سورٍ ، في قوله : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] .

وثالثها : أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة ، في قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] .

ورابعها : تحدَّاهم بحديث مثله ، في قوله { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] .

وخامسها : أنَّ في تلك المراتب الأربع ، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم ، ثُمَّ في سورة يونس : طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان ، سواء تعلَّم العلوم ، أو لم يتعلَّمها .

وسادساً : أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق ، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم ، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة ، كما قال : { وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } [ يونس : 38 ] ، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن .


[18462]:قال أبو حاتم: أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة "سورة" أو تنوينها؛ فقال له عمر: كيف شئت. ينظر: الكشاف 2/347، المحرر الوجيز 3/121، البحر المحيط 5/159، الدر المصون 4/34.