( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ، ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا ) . .
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به . . متى صح الإيمان ، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له . فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده . وهو صاحب السلطان والقدرة وحده . . وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل . رحمة في هذه الحياة الدنيا - قبل الحياة الأخرى - وفضل في هذه العاجلة - قبل الفضل في الآجلة - فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود . كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه ؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة - كما أسلفنا - حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته . عبد لله وسيد مع كل من عداه . . وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان - كما جاء به الإسلام - هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . حين يوحد الألوهية ؛ ويسوي بين الخلائق جميعا في العبودية . وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده ؛ فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله ، فيكون عبدا له مهما تحرر !
فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل ، في حياتهم الحاضرة ، وفي حياتهم الآجلة سواء . .
ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا . .
وكلمة ( إليه ) . . تخلع على التعبير حركة مصورة . إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة ؛ وتقربهم إليه خطوة خطوة . . وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة ، فيعتصم به على ثقة . . حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي ؛ وتتنضح أمامه الطريق ؛ ويقترب فعلا من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي : جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم . وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن . رواه ابن جرير .
{ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ } أي : يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم ، من فضله عليهم وإحسانه إليهم ، { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي : طريقا واضحا قَصْدا قَوَاما لا اعوجاج فيه ولا انحراف . وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات ، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات . وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن صراطُ اللهِ المستقيمُ وحبلُ الله المتين " . وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة .
ثم وعد تبارك وتعالى المؤمنين بالله ، المعتصمين به ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على القرآن الذي تضمنه قوله تعالى : { نوراً مبيناً } و «الاعتصام » به التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به ، فهو يعصم كما تعصم المعاقل ، وهذا قد فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : «القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم » و «الرحمة » و «الفضل » : الجنة وتنعيمها ، { ويهديهم } ، معناه : إلى الفضل ، وهذه هداية طريق الجنان ، كما قال تعالى : { سيهديهم ويصلح بالهم }{[4391]} لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه ، و { صراطاً } نصب بإضمار فعل يدل عليه { يهديهم } ، تقديره فيعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب كالمفعول الثاني : إذ { يهديهم } في معنى يعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب على ظرفية «ما » ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في { إليه } وقيل : من [ فضل ] والصراط : الطريق وقد تقدم تفسيره .
( أمّا ) في قوله : { فأما الذين آمنوا بالله } يجوز أن يكون للتفصيل : تفصيلاً لِمَا دَلّ عليه { يا أيها الناس } من اختلاف الفرق والنزعات : بين قابل للبرهان والنّور ، ومكابر جاحد ، ويكون مُعادل هذا الشقّ محذوفاً للتهويل ، أي : وأمَّا الذين كفروا فلا تسل عنهم ، ويجوز أن يكون ( أمّا ) لمجرد الشرط دون تفصيل ، وهو شرط لِعموم الأحوال ، لأنّ ( أمّا ) في الشرط بمعنى ( مَهما يكُنْ من شيء ) وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب معادلاً .
والاعتصام : اللوْذ ، والاعتصام بالله استعارة لللوذ بدينه ، وتقدّم في قوله { واعتصموا بحبل الله جميعاً } في سورة آل عمران ( 103 ) . والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى .
وقوله : ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } : تعلَّق الجار والمجرور ب ( يهدي ) فهو ظرف لَغو ، و { صراطاً } مفعول ( يهدي ) ، والمعنى يهديهم صراطاً مستقيماً ليصلوا إليه ، أي إلى الله ، وذلك هو متمنّاهم ، إذ قد علموا أنّ وعدهم عنده .