قوله تعالى : { وجاءت سكرة الموت } غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله ، { بالحق } أي بحقيقة الموت ، وقيل : بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان . وقيل : بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة . ويقال لمن جاءته سكرة الموت : { ذلك ما كنت منه تحيد } تميل ، قال الحسن : تهرب . قال ابن عباس : تكره ، وأصل الحيد الميل ، يقال : حدت عن الشيء أحيد حيداً ومحيداً : إذا ملت عنه .
تلك صفحة الحياة ، ووراءها في كتاب الإنسان صفحة الاحتضار :
( وجاءت سكرة الموت بالحق . ذلك ما كنت منه تحيد ) . .
والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه ، أو يبعد شبحه عن خاطره . ولكن أنى له ذلك : والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطيء الخطى ، ولا يخلف الميعاد ؛ وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال ! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان : ( ذلك ما كنت منه تحيد ) . وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة ! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات ! وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : " سبحان الله . إن للموت لسكرات " . . يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله . فكيف بمن عداه ?
ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق : ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) . . وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملا وهي في سكرات الموت . تراه بلا حجاب ، وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد ، ولكن بعد فوات الأوان ، حين لا تنفع رؤية ، ولا يجدي إدراك ، ولا تقبل توبة ، ولا يحسب إيمان . وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج ! . . وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئا ولا يفيد !
وقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، يقول تعالى : وجاءت - أيها الإنسان - سكرة الموت بالحق ، أي : كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه ، { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي : هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ، ولا فكاك ولا خلاص .
وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو . وقيل : الكافر ، وقيل : غير ذلك .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا إبراهيم بن زياد - سَبَلان - أخبرنا عَبَّاد بن عَبَّاد عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص{[27298]} أن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : حضرت أبي وهو يموت ، وأنا جالسة عند رأسه ، فأخذته غشيةٌ فتمثلت ببيت من الشعر :
من لا يزال دمعه مُقَنَّعا *** فإنه لا بد مرةً {[27299]} مدقوق {[27300]}
قالت : فرفع رأسه فقال : يا بنية ، ليس كذلك ولكن كما قال تعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
وحدثنا{[27301]} خلف بن هشام ، حدثنا أبو شهاب [ الخياط ]{[27302]} ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهي قال : لما أن ثقل أبو بكر {[27303]} ، رضي الله عنه ، جاءت عائشة ، رضي الله عنها ، فتمثلت بهذا البيت :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر{[27304]}
فكشف عن وجهه وقال : ليس كذلك ، ولكن قولي : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } وقد أوردت لهذا الأثر طرقا [ كثيرة ]{[27305]} في سيرة الصديق عند ذكر وفاته ، رضي الله عنه .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : " سبحان الله ! إن للموت لسكرات " . وفي قوله : { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } قولان :
أحدهما : أن " ما " هاهنا موصولة ، أي : الذي كنت منه تحيد - بمعنى : تبتعد وتنأى وتفر - قد حل بك ونزل بساحتك .
والقول الثاني : أن " ما " نافية بمعنى : ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه .
وقد قال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، حدثنا حفص بن عمر الحدي ، حدثنا معاذ بن محمد الهُذَلي ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن سَمُرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب ، تطلبه الأرض بدَيْن ، فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره ، فقالت له الأرض : يا ثعلب ، ديني . فخرج وله حصاص ، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات " {[27306]} .
ومضمون هذا المثل : كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ } .
وفي قوله : وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بالحَقّ وجهان من التأويل ، أحدهما : وجاءت سكرة الموت وهي شدّته وغلبته على فهم الإنسان ، كالسكرة من النوم أو الشراب بالحقّ من أمر الاَخرة ، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه . والثاني : وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت .
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ بالمَوْتِ » . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن واصل ، عن أبي وائل ، قال : لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي ، قالت عائشة رضي الله عنها هذا ، كما قال الشاعر :
*** إذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِها الصّدْرُ ***
فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا تقولي ذلك ، ولكنه كما قال الله عزّ وجلّ : وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بالحَقّ ذلكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود . ولقراءة من قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان : :
أحدهما : وجاءت سكرة الله بالموت ، فيكون الحقّ هو الله تعالى ذكره . والثاني : أن تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها ، كما قيل : إنّ هذَا لهُوَ حَقّ اليَقِينِ . ويكون تأويل الكلام : وجاءت السكرةُ الحقّ بالموت .
وقوله : ذلكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ يقول : هذه السكرة التي جاءتك أيها الإنسان بالحقّ هو الشيء الذي كنت تهرب منه ، وعنه تروغ .
وقوله : { وجاءت } عطف عندي على قوله : { إذ يتلقى } فالتقدير : وإذ تجيء سكرة الموت ، وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقاً وتثبيتاً للأمر ، وهذا أحث على الاستعداد واستشعار القرب ، وهذه طريقة العرب في ذلك ، ويبين هذا في قوله : { ونفخ في الصور } { وجاءت كل نفس } فإنها ضرورة بمعنى الاستقبال . وقرأ أبو عمرو : { وجاءت سكرة } بإدغام التاء في السين . و { سكرة الموت } : ما يعتري الإنسان عند نزاعه والناس فيها مختلفة أحوالهم ، لكن لكل واحد سكرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزاعه يقول : «إن للموت لسكرات »{[10532]} .
وقوله تعالى : { بالحق } معناه : بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «وجاءت سكرة الحق بالموت » . وقرأها ابن جبير وطلحة ، ويروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالها كذلك لابنته عائشة وذلك أنها قعدت عند رأسه وهو ينازع فقالت : [ الطويل ]
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى . . . إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر{[10533]}
ففتح أبو بكر رضي الله عنه عينه فقال : لا تقولي هكذا ، وقولي : «وجاءت سكرة الحق بالموت » { ذلك ما كنت منه تحيد } . وقد روي هذا الحديث على مشهور القراءة { وجاءت سكرة الموت بالحق }{[10534]} فقال أبو الفتح : إن شئت علقت الباء ب { جاءت } ، كما تقول : جئت بزيد ، وإن شئت كانت بتقدير : ومعها الموت{[10535]} .
واختلف المتأولون في معنى : «وجاءت سكرة الحق بالموت » فقال الطبري وحكاه الثعلبي : «الحق » الله تعالى ، وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بعد وإن كان ذلك سائغاً من حيث هي خلق له ، ولكن فصاحة القرآن ورصفه لا يأتي فيه هذا . وقال بعض المتأولين المعنى : وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان ويحيد منه بأمله . ومعنى هذا الحيد : أنه يقول : أعيش كذا وكذا ، فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمن ، وأيضاً فحذر الموت وتحرزاته ونحو هذا حيد كله .
عطف على جملة { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] لاشتراكهما في التنبيه على الجزاء على الأعمال . فهذا تنقل في مراحل الأمور العارضة للإنسان التي تسلمه من حال إلى آخر حتى يقع في الجزاء على أعماله التي قد أحصاها الحفيظان .
وإنما خولف التعبير في المعطوف بصيغة الماضي دون صيغة المضارع التي صيغ بها المعطوف عليه لأنه لقربه صار بمنزلة ما حصل قصدا لإدخال الروع في نفوس المشركين كما استفيد من قوله : { ذلك ما كنت منه تحيد } نظير قوله تعالى : { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } [ الجمعة : 8 ] .
ويأتي على ما اختاره الفخر في تفسير { إذ يتلقى المتلقّيان } [ ق : 17 ] الآية أن تكون جملة { وجاءت سكرة الموت } الخ في موضع الحال . والتقدير : وقد جاءت سكرة الموت بالحق حينئذٍ .
والمجيء مجاز في الحصول والاعتراء وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احتضار الإنسان وشعوره بأنه مفارق الحياة التي ألِفها وتعلق بها قلبه .
والسَّكرة : اسم لما يعتري الإنسان من ألم أو اختلال في المزاج يحجب من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة . وهي مشتق من السَّكر بفتح فسكون وهو الغلق لأنه يغلق العقل ومنه جاء وصف السكران .
والباء في قوله : { بالحق } للملابسة ، وهي إما حال من { سكرة الموت } أي متصفة بأنها حق ، والحق : الذي حقّ وثبَت فلا يتخلّف ، أي السكرة التي لا طمع في امتداد الحياة بعدها ، وإما حال من { الموت } ، أي ملتبساً بأنه الحق ، أي المفروض المكتوب على الناس فهم محقوقون به ، أو الذي هو الجِدّ ضد العبث كقوله تعالى : { خلق السماوات والأرض بالحق } [ التغابن : 3 ] مع قوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 ] .
وقول { ذلك } إشارة إلى الموت بتنزيل قرب حصوله منزلة الحاصل المشاهد .
و { تحيد } تفرّ وتهرب ، وهو مستعار للكراهية أو لتجنب أسباب الموت . والخطاب للمقصود من الإنسان وبالمقصود الأول منه وهم المشركون لأنهم أشدّ كراهية للموت لأن حياتهم مادية مَحضة فهم يريدون طول الحياة قال تعالى : { ومِن الذين أشركوا يَودّ أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة } [ البقرة : 96 ] إذ لا أمل لهم في حياة أخرى ولا أمل لهم في تحصيل نعيمها ، فأما المؤمنون فإن كراهتهم للموت المرتكزة في الجبلة بمقدار الإلف لا تبلغ بهم إلى حد الجزع منه . وفي الحديث « من أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه » ، وتأويله بالمؤمن يحب لقاء الله للطمع في الثواب ، وبالكافر يكره لقاء الله . وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إن المؤمن إذا حضرته الوفاة رأى ما أعد الله له من خير فأحب لقاء الله » أي والكافر بعكسه ، وقد قال الله تعالى خطاباً لليهود { قل إن الموت الذي تَفِرُّون منه فإنه ملاقيكم } [ الجمعة : 8 ] .
وتقديم { منه } على { تحيد } للاهتمام بما منه الحياد ، وللرعاية على الفاصلة .