المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ} (19)

وقوله : { وجاءت } عطف عندي على قوله : { إذ يتلقى } فالتقدير : وإذ تجيء سكرة الموت ، وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقاً وتثبيتاً للأمر ، وهذا أحث على الاستعداد واستشعار القرب ، وهذه طريقة العرب في ذلك ، ويبين هذا في قوله : { ونفخ في الصور } { وجاءت كل نفس } فإنها ضرورة بمعنى الاستقبال . وقرأ أبو عمرو : { وجاءت سكرة } بإدغام التاء في السين . و { سكرة الموت } : ما يعتري الإنسان عند نزاعه والناس فيها مختلفة أحوالهم ، لكن لكل واحد سكرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزاعه يقول : «إن للموت لسكرات »{[10532]} .

وقوله تعالى : { بالحق } معناه : بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «وجاءت سكرة الحق بالموت » . وقرأها ابن جبير وطلحة ، ويروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالها كذلك لابنته عائشة وذلك أنها قعدت عند رأسه وهو ينازع فقالت : [ الطويل ]

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى . . . إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر{[10533]}

ففتح أبو بكر رضي الله عنه عينه فقال : لا تقولي هكذا ، وقولي : «وجاءت سكرة الحق بالموت » { ذلك ما كنت منه تحيد } . وقد روي هذا الحديث على مشهور القراءة { وجاءت سكرة الموت بالحق }{[10534]} فقال أبو الفتح : إن شئت علقت الباء ب { جاءت } ، كما تقول : جئت بزيد ، وإن شئت كانت بتقدير : ومعها الموت{[10535]} .

واختلف المتأولون في معنى : «وجاءت سكرة الحق بالموت » فقال الطبري وحكاه الثعلبي : «الحق » الله تعالى ، وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بعد وإن كان ذلك سائغاً من حيث هي خلق له ، ولكن فصاحة القرآن ورصفه لا يأتي فيه هذا . وقال بعض المتأولين المعنى : وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان ويحيد منه بأمله . ومعنى هذا الحيد : أنه يقول : أعيش كذا وكذا ، فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمن ، وأيضاً فحذر الموت وتحرزاته ونحو هذا حيد كله .


[10532]:اخرجه ابن أبي شيبة، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات.
[10533]:هذا البيت لحاتم الطائي، وهو من قصيدة أكثر فيها من الحكم، والرواية في الديوان:"أماويّ، ما يغني الثراء"، والبيت في اللسان، والحشرجة: صوت النفس، وهو الغرغرة في الصدر. أما"ماوية" فهي امرأة حاتم، وهو هنا يناديها ويوجه لها الحديث في هذا البيت وفي ستة أبيات أخرى من القصيدة نفسها، يقول في مطلع كل بيت: أماوية.
[10534]:أخرجه أحمد، وابن جرير، عن عبد الله بن اليمني مولى الزبير بن العوام، قال: لما حضر أبو بكر تمثلت عائشة بهذا البيت: أعاذل ما يغني الحِذار عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي:{وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}. أما ما نقله ابن عطية هنا وهو (وجاءت سكرة الحق بالموت) فقيل إنها قراءة قرأ بها أبو بكر رضي الله عنه، وقال القرطبي:"إن أبا بكر رضي الله عنه رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث"
[10535]:فهي متعلقة بمحذذوف، وتقع حالا، كقولك: خرج بثيابه، أي: وثيابه عليه، ومن ذلك قوله تعالى:{فخرج على قومه في زينته} أي: وزينته عليه. أما على قول من قال إن قراءة أبي بكر رضي الله عنه:(وجاءت سكرة الحق بالموت) قراءة فقد قال أبو الفتح بعد أن نسبها إلى طلحة وسعيد بن جبير:"كيف يجوز أن تقول:(جاءت سكرة الحق بالموت) وأنت تريد به(جاءت سكرة الموت بالحق)؟ فياليت شعري أيتها الجائية بصاحبتها؟ قيل: إنهما اشتركتا في الحال، وكل منهما قريبة من صاحبتها حتى كأن كل واحدة منهما جاءت بالأخرى".اهـ. بتصرف.