قوله تعالى : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } . أي أهنته ، وقيل : أهلكته ، وقيل : فضحته ، لقوله تعالى ( ولا تخزون في ضيفي ) فإن قيل : قد قال الله تعالى " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " ، ومن أهل الإيمان من يدخل النار ، وقد قال ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) فكيف الجمع ؟ قيل : قال أنس وقتادة : معناه إنك من تخلده في النار فقد أخزيته ، وقال سعيد بن المسيب : هذه خاصة لمن لا يخرج منها ، فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قوماً النار ثم يخرجون منها .
ثم تتوالى الحركات النفسية ، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
( فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار ) .
فما العلاقة الوجدانية ، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق ، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ؟
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره ، معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا ، وأن هناك حكمة وغاية ، وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة ، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار ، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها ، هو الخاطر الأول ، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل ، الخاشع الواجف الراجف المنيب ، ذي النغم العذب ، والإيقاع المنساب ، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام !
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم :
( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) . . ( وما للظالمين من أنصار ) . .
إنها تشي بأن خوفهم من النار ، إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله ، فهم أشد حساسية به من لذع النار ! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله ، وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .
{ رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } .
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها فقد أخزيته ، قال : ولا يخزي مؤمن مصيره إلى الجنة وإن عذّب بالنار بعض العذاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حفص الجبيري ومحمد بن بشار ، قال : أخبرنا المؤمل ، أخبرنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن أنس ، في قوله : { رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ } قال : من تُخلد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن ابن المسيب : { رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ } قال : هي خاصة لمن لا يخرج منها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا قبيصة بن مروان ، عن الأشعث الحملي ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد أرأيت ما تذكر من الشفاعة حق هو ؟ قال : نعم حق . قال : قلت يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى : { رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ } و{ يُريدُون أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ ومَا هُمْ بَخارِجِينَ مِنْها } ؟ قال : فقال لي : إنك والله لا تستطيع على شيء ، إن للنار أهلاً لا يخرجون منها كما قال الله . قال : قلت يا أبا سعيد : فيمن دخلوا ثم خرجوا ؟ قال : كانوا أصابوا ذنوبا في الدنيا ، فأخذهم الله بها فأدخلهم بها ، ثم أخرجهم بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ } قال : هو من يخلد فيها .
وقال آخرون : معنى ذلك : ربنا إنك من تدخل النار من مخلد فيها وغير مخلد فيها ، فقد أخزي بالعذاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا الحرث بن مسلم ، عن يحيى بن عمرو بن دينار ، قال : قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة ، فانتهيت إليه أنا وعطاء ، فقلت : { رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ } ؟ قال : وما إخزاؤه حين أحرقه بالنار ! وإن دون ذلك لخزيا .
وأولى القولين بالصواب عندي قول جابر : إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها ، وإن أخرج منها . وذلك أن الخزي إنما هو هتك ستر المخزي وفضيحته ، ومن عاقبه ربه في الاَخرة على ذنوبه ، فقد فضحه بعقابه إياه ، وذلك هو الخزي .
وأما قوله : { وَمَا للظّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ } يقول : وما لمن خالف أمر الله فعصاه من ذي نصرة له ينصره من الله فيدفع عنه عقابه أو ينقذه من عذابه .
وقوله تعالى : { ربنا } معناه يقولون ربنا على النداء ، ما خلقت هذا باطلاً ، يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد وتعبد ، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله عليك ما لا يليق بك ، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن قولهم : { سبحانك } : أي تنزيهاً لك عما يقول المبطلون وحسن قولهم : { فقنا عذاب النار } إذ نحن المسبحون المنزهون لك الموحدون .
وقولهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } ، استجارة واستعاذة ، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها ، والخزي : الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء ، خزي الرجل يخزى خزياً إذا افتضح ، وخزاية إذا استحيى ، الفعل واحد والمصدر مختلف ، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم : هذه إشارة إلى من يخلد في النار{[3795]} ، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي ، وقال جابر بن عبد الله وغيره : كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها ، وإن في دون ذلك لخزياً{[3796]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره ، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى : { وما للظالمين من أنصار } هو من قول الداعين ، وبذلك يتسق وصف الآية .