مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (192)

النوع الثاني من دعواتهم : قوله تعالى حكاية عنهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، ليكون موقع السؤال أعظم ، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئا أو أن لا يفعله ، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقرونا بالإخلاص ، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء .

المسألة الثانية : قال الواحدي : الأخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض . قال الزجاج : أخزى الله العدو ، أي أبعده وقال غيره : أخزاه الله أي أهانه ، وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله ، وفي القرآن { ولا تخزون في ضيفي } وقال المفضل : أخزاه الله أي أهلكه وقال ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة . ثم قال صاحب «الكشاف » : { فقد أخزيته } أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال : من سبق فلانا فقد سبق ، ومن تعلم من فلان فقد تعلم .

المسألة الثالثة : قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن ، وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا .

والجواب : أن قوله { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } لا يقتضي نفي الأخزاء مطلقا ، وإنما يقتضي أن لا يحصل الأخزاء حال ما يكون مع النبي ، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الأخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر ، هذا هو الذي صح عندي في الجواب ، وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه : أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } مخصوص بمن يدخل النار للخلود ، وهذا الجواب عندي ضعيف ، لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فإنما دخلها للخلود ، فهذا لا يكون سؤالا عنهم .

ثانيها : قال : المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار ، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة ، وثالثها : قال : الأخزاء يحتمل وجهين : أحدهما : الإهانة والإهلاك ، والثاني : التخجيل ، يقال : خزي خزاية إذا استحيا ، وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحي منه .

واعلم أن حاصل هذا الجواب : أن لفظ الأخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك ، واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعا ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } غير المثبت في قوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } وعلى هذا يسقط الاستدلال ، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الأخزاء مشتركا بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد ، وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد ، سقط هذا الجواب لأن قوله : { لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } لنفي الجنس وقوله : { فقد أخزيته } لإثبات النوع ، وحينئذ يحصل بينهما منافاة .

المسألة الرابعة : احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي وكل من دخل النار فإنه يخزي ، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار ، إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزي لأن صاحب الكبيرة مؤمن ، والمؤمن لا يخزي . إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله } سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضا قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمنا ، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزي لقوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } ولقوله : { ولا تخزنا يوم القيامة } .

ثم قال تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين ، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار ، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فإنه يخزي لقوله تعالى : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار .

والجواب عنه ما تقدم : أن قوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } لا يدل على نفي الأخزاء مطلقا ، بل يدل على نفي الأخزاء حال كونهم مع النبي ، وذلك لا ينافي حصول الأخزاء في وقت آخر .

المسألة الخامسة : قوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } عام دخله الخصوص في مواضع منها : أن قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا } يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار ، وأهل الثواب يصانون عن الخزي . وثانيها : أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار ، وهم أيضا يصانون عن الخزي . قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ شداد } .

المسألة السادسة : احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني ، قالوا : لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي ، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني ، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة .

المسألة السابعة : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين ، وقالوا : الخزي هو الهلاك ، فقوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } معناه فقد أهلكته ، ولو كانوا يخرجون من النار إلى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك . والجواب : أنا لا نفسر الخزي بالإهلاك بل نفسره بالإهانة والتخجيل ، وعند هذا يزول كلامكم .

أما قوله تعالى : { وما للظالمين من أنصار } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق ، وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة ، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع .

والجواب من وجوه : الأول : أن القرآن دل على أن الظالم بالإطلاق هو الكافر ، قال تعالى : { والكافرون هم الظالمون } ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } وثانيها : أن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن الله ، قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وإذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة ، وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى ، وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر ، وليس الحكم إلا لله ، فقوله : { وما للظالمين من أنصار } يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال :

{ ألا له الحكم } وقال : { والأمر يومئذ لله } لا يقال : فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة ، لأنا نقول : بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب ، فلهم يوم القيامة هذه الحجة . أما الفساق فليس لهم ذلك ، فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الإطلاق . الثالث : أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام ، والله أعلم .

المسألة الثانية : المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار ، قالوا : لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له ، والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة .

والجواب : المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة .