النوع الثاني من دعواتهم : قوله تعالى حكاية عنهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، ليكون موقع السؤال أعظم ، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئا أو أن لا يفعله ، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقرونا بالإخلاص ، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء .
المسألة الثانية : قال الواحدي : الأخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض . قال الزجاج : أخزى الله العدو ، أي أبعده وقال غيره : أخزاه الله أي أهانه ، وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله ، وفي القرآن { ولا تخزون في ضيفي } وقال المفضل : أخزاه الله أي أهلكه وقال ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة . ثم قال صاحب «الكشاف » : { فقد أخزيته } أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال : من سبق فلانا فقد سبق ، ومن تعلم من فلان فقد تعلم .
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن ، وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا .
والجواب : أن قوله { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } لا يقتضي نفي الأخزاء مطلقا ، وإنما يقتضي أن لا يحصل الأخزاء حال ما يكون مع النبي ، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الأخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر ، هذا هو الذي صح عندي في الجواب ، وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه : أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } مخصوص بمن يدخل النار للخلود ، وهذا الجواب عندي ضعيف ، لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فإنما دخلها للخلود ، فهذا لا يكون سؤالا عنهم .
ثانيها : قال : المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار ، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة ، وثالثها : قال : الأخزاء يحتمل وجهين : أحدهما : الإهانة والإهلاك ، والثاني : التخجيل ، يقال : خزي خزاية إذا استحيا ، وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحي منه .
واعلم أن حاصل هذا الجواب : أن لفظ الأخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك ، واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعا ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } غير المثبت في قوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } وعلى هذا يسقط الاستدلال ، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الأخزاء مشتركا بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد ، وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد ، سقط هذا الجواب لأن قوله : { لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } لنفي الجنس وقوله : { فقد أخزيته } لإثبات النوع ، وحينئذ يحصل بينهما منافاة .
المسألة الرابعة : احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي وكل من دخل النار فإنه يخزي ، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار ، إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزي لأن صاحب الكبيرة مؤمن ، والمؤمن لا يخزي . إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله } سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضا قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمنا ، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزي لقوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } ولقوله : { ولا تخزنا يوم القيامة } .
ثم قال تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين ، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار ، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فإنه يخزي لقوله تعالى : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار .
والجواب عنه ما تقدم : أن قوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } لا يدل على نفي الأخزاء مطلقا ، بل يدل على نفي الأخزاء حال كونهم مع النبي ، وذلك لا ينافي حصول الأخزاء في وقت آخر .
المسألة الخامسة : قوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } عام دخله الخصوص في مواضع منها : أن قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا } يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار ، وأهل الثواب يصانون عن الخزي . وثانيها : أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار ، وهم أيضا يصانون عن الخزي . قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ شداد } .
المسألة السادسة : احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني ، قالوا : لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي ، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني ، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة .
المسألة السابعة : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين ، وقالوا : الخزي هو الهلاك ، فقوله : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } معناه فقد أهلكته ، ولو كانوا يخرجون من النار إلى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك . والجواب : أنا لا نفسر الخزي بالإهلاك بل نفسره بالإهانة والتخجيل ، وعند هذا يزول كلامكم .
أما قوله تعالى : { وما للظالمين من أنصار } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق ، وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة ، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع .
والجواب من وجوه : الأول : أن القرآن دل على أن الظالم بالإطلاق هو الكافر ، قال تعالى : { والكافرون هم الظالمون } ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } وثانيها : أن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن الله ، قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وإذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة ، وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى ، وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر ، وليس الحكم إلا لله ، فقوله : { وما للظالمين من أنصار } يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال :
{ ألا له الحكم } وقال : { والأمر يومئذ لله } لا يقال : فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة ، لأنا نقول : بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب ، فلهم يوم القيامة هذه الحجة . أما الفساق فليس لهم ذلك ، فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الإطلاق . الثالث : أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام ، والله أعلم .
المسألة الثانية : المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار ، قالوا : لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له ، والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة .
والجواب : المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.